صَدِّق أو لا تُصَدِّق… قنوات الاتصال بين دولتنا وشبابنا مقطوعة تمامًا، ومعظم ما تُنفقه الدولة من أموال هو دعمٌ معرفيٌّ لا يصل إلى مستحقيه.
شباب اليوم – يا سادتي – لم يَعُد له أي صلة بالراديو (المذياع)، ولا يَمتلكونه. وإن وُجِد في بيوتهم من زمنٍ سابق، فهم لا يسمعونه. ومع ذلك، فإن الخطاب السياسي للدولة والدعاية التي تُبَثّ كلّها تأتي من خلال المذياع، الذي – كما قلنا – لا علاقة للشباب به.
أما فيما يختص بالتليفزيون، فلم يَعودوا طرفًا في "حزب الكنبة" يشاهدونه، وإن فَعَلوا، فالقنوات الفضائية كثيرة، وأصبحت القنوات المصرية لا تمتلك نفس درجة الجاذبية التي كانت عليها في السابق، ومشاهدوها باتوا يُمَثِّلون نسبة ضئيلة جدًّا وسط حشود القنوات الفضائية غير الخاضعة لإيديولوجية الدولة وخطابها السياسي أو حتى المجتمعي.
أمّا عن القراءة – كرافدٍ آخر من روافد المعرفة، صحفًا وكتبًا ورقية أو إلكترونية – فقد باتت في خبر كان، ولا يُمَثِّل قارئوها من الشباب إلا عددًا قليلًا جدًّا، إن وُجِد.
ومن هنا أصبح المصدر الأساسي للمعلومة والفكرة والرأي عند الشباب اليوم هو وسائل التواصل الاجتماعي، بما تملكه من حريةٍ لا حدود لها، للمدوِّن أن يقول خلالها كل ما يَعنُّ له، وفقًا لانتماءاته وثقافاته وأغراضه وأخلاقه. ولا يَفوتنا التذكير بأن من يحظى بمتابعين أكثر، وإعجابٍ أوفر، ومشاركاتٍ أغزر، هم الذين يبثّون وينشرون كل غريب ومدهش ومثير وخارق للعادة، في حالة عداء مع كل مألوف، مع شيوع السطحية والبساطة التي تصل أحيانًا إلى درجة "الهيافة". وبالطبع، يتم – تحت إغراء ذلك – التضحية بالحقيقة وبالكثير من القيم المرعيّة.
ولا نُنكر وجود بعض ما هو جادٌّ ونافع إلى جانب كل هذه الصغائر، ولا نُنكر أن هذا ليس حكرًا علينا، بل موجود ومطروح في كل بلاد العالم. لكن الحماية من سموم هذه الخلطة تعتمد على قدرة المجتمعات على الفرز والتجنيب، وقدرة الدولة على مواجهة الحقائق. وأهمها في الوقت الراهن هو انسداد القنوات بين الدولة والشباب، وعجزها عن إيجاد البديل الذي يُلجم أو يُحَجِّم وسائل التواصل الاجتماعي، لتُصبح في حجم مثيلاتها في الدول المتقدمة: موجودة، نعم، لكن ليست صاحبة قرار.
عكس ما هو في دول أخرى… وعلى سبيل المثال دول "الربيع العربي"، تلك الدول المتهافتة، المصابة بهشاشةٍ في الوعي القومي، والمطاردة بثقافة "الأخذ والرد"، والمُعتنقة لـ"ديانة: تمام يا فندم". هل هناك من يُنكر أنّها كانت هي صاحبة القرار؟
وأنا هنا لا أُوجّه حديثي إلى القارئ، وإنما إلى دولتنا التي لا تسمع إلا نفسها.

وأنا لا أقول شيئًا تجهله الأمّة المصرية، بل عرفته جيّدًا منذ مستهل القرن العشرين إلى منتصفه. فهذا المجتمع المدني المصري في تلك الفترة أنشأ جامعة، وأنشأ بنكًا، وأقام صناعة، وأسقط حكومات، وشكّل حكومات، وأسس شركات مساهمة أهلية لم يكن للحكومة أي دور فيها. وقد ظهر ذلك في أفلامنا عندما غنّت ليلى مراد في أحد أفلامها: مين يشتري الورد مني.
المطلوب – يا دولتنا المُبجَّلة – لضم الشباب إلى أحضان الدولة وفتح قنوات للتواصل:
الأحزاب السياسية: تلك التي وضعتها الدولة داخل "كردون" أو داخل "متحف إجباري" علّقت على بابه لافتة كُتب عليها بالخط العريض "أحزاب ورقية". بينما هي ليست كذلك، وإنما جُعلت ورقية. هذه الأحزاب – إذا فُعِّلت وكانت فاعلة ومحترمة من جانب السلطة التنفيذية – هي التي يمكنها أن تحتضن الشباب المصري، وأن تُصحّح مفاهيمه إن اختلّت بفعل قناة مثل "الجزيرة" و"مكملين" وغيرهما. الأحزاب هي "الفلتر" الذي إن تدفقت إليه الإشاعات والأكاذيب والتحليلات المغلوطة، قام بتنقيتها وتوصيلها لمستحقيها (الشباب) مباشرة، وجهًا لوجه. وهذا ليس ابتكارًا من جانبي، وإنما هو نقلٌ مسطَّر مما يحدث في الدول المتقدمة: ألمانيا، فرنسا، اليابان… (وكان يحدث عندنا في الفترة الليبرالية المذكورة سابقًا).
النقابات المهنية الحرة: التي لا تمتد إليها يد الدولة بالتوجيه أو بـ"لفت النظر".
المجالس المحلية المنتخبة.
عودة اتحادات الطلبة.

إنني لم أكتب ما كتبت إلا خوفًا على هذا البلد، وثقةً في وطنية قيادته، وأملًا أن يبدأ العمل في هذا المضمار. بالطبع سيأخذ وقتًا وجهدًا، لكن لا مناص من البدء.
تعليقات
إرسال تعليق