الدراسات الجادة



أسوأ ما نواجهه في مصرنا (الغالية) هو نقص في الدراسات الجادة لتجاربنا الفاشلة. منذ انقلاب يوليو 1952 اتجهت الدولة للتركيز على ما تعتبره هي انتصارات وتجارب ناجحة، وأنا لا أختلف معها في ذلك، فأنا أيضًا مثلها أهوى الرقص والمزامير والطبل والصاجات. لكن المشكلة هي أن "البحلقة" والفحص والتحليل للتجارب الفاشلة هو السبيل الوحيد للنجاة من توطن الفشل.


تعرفت مصر الصناعة منذ القرن التاسع عشر، وقبل أن تعرفها أي بلد في الإقليم، أو بمعنى أدق "أجعصها بلد في الإقليم". بدأت صناعة إطارات كاوتشوك السيارات عندنا منذ عام 1934، أين هي الآن؟ صفر. أين صناعات الخطة الخمسية الأولى؟ ماذا بقى منها الآن؟ أين الطائرة المقاتلة "هندستان" التي اشتركت مصر في صناعتها مع الهند؟ هي الآن تحمي سماء الهند، أما عن مصانعها في حلوان فتزعق فيها الغربان. أين طائرة التدريب المسماة "القاهرة"؟ الله أعلم.

أنا لا أبكي على اللبن المسكوب ولا أدعوكم للبكاء عليه، فلو فعلنا لابيضّت عيوننا كما ابيضّت عيون يعقوب عليه السلام. فمثلًا كنا من أوائل البلاد التي اهتمت بصناعة الصواريخ واستعنا بالخبراء الألمان الذين أصبحوا خارج الخدمة بعد الحرب العالمية الثانية وهزيمة هتلر. ما الذي حدث لها؟

إننا لا نطلب استرداد الماضي، إننا فقط نطلب دراسته. لماذا كلما نهضنا وحلقنا في السماء نسقط؟ نهضة محمد علي سقطت، نهضة الخديوي إسماعيل سقطت، نهضة عبد الناصر سقطت. هل لأنها كانت نهضات حكام وليست نهضات شعوب؟ تموت بموتهم وتسقط بسقوطهم؟

كله يهون، لكن الذي لا يهون هو تجربتنا الليبرالية التي كانت وراء نهضة شعبنا 1922 إلى 1952. أعرف أن للإخوان المسلمين دورًا في هدم ليبراليتنا، هدموها، هالوا عليها التراب حتى لم يبق لها ذكرى. الآن... يقبلون العمى ولا يقبلون الليبرالية. يقبلون الفشل، يقبلون التخلف، يقبلون الهزيمة، ولا يقبلون الليبرالية. مسموح بكل شيء، بكل رذيلة، إلا رذيلة الرأي الآخر.

ولكن، وأحرى قلباه! الحقائق عنيدة. ولم يوجد بعد على وجه البسيطة طائر في السماء يحلق بجناح واحد؛ لابد من جناحين: أحدهما الموالاة والآخر المعارضة.

لا أطمح في أكثر من الدراسة، وإعطاء الفرصة لطلاب الدراسات العليا أن يتقدموا للماجستير والدكتوراة بدراسة من نوع: أين صوف العسكري؟ أين القطارات التي كانت تصنعها شركة سيماف؟ ما الذي بقى في منطقة عين حلوان من المصانع؟ دراسات فقط وكتب تُطبع حتى لو ظلت على أرفف المكتبات بلا قراءة أو قرّاء.

الغريب أن لدينا هيئة نشر عملاقة ووزارة ثقافة لها هيل وهيلمان، ومع ذلك: "يارب كما خلقتني... خواء". هل يمكن أن نأمل في نهضة ثقافية؟ لا أظن. وبالمناسبة لم أقل صناعية أو اقتصادية أو سياسية أو ليبرالية... فقط ثقافية. هل يمكن أن يكون هناك طلب أكثر تواضعًا من ذلك؟

تعليقات