يومان فقط يفصلان بيننا وبين ٢٣ يوليو ١٩٥٢، حيث تندلع الاحتفالات بذكرى ما نُطلق عليه "ثورة ٢٣ يوليو".
أعرف أن عندي مشكلة كبيرة مع هذه الذكرى، ولكن مشكلتي الأكبر والأعقد والأخطر هي مع طريقتنا في التعامل مع هذه المناسبة.
فيُؤسفني القول: إنّ كل، أو معظم، احتفالاتنا القومية هي احتفالات تتمّ بطريقةٍ مَرَضِيّة.
بمعنى: إنه لم يحدث أبدًا أن سألنا أنفسنا: هل هذه المناسبة يصحّ أن تكون حفلاً؟ أم مأتمًا؟
وربما يكون لذلك الخلل مرجعية دينية؛ فمثلًا: عيد الأضحى المبارك هو ذكرى لحدث، أو لتراجيديا مهولة، فقد رأى سيدُنا إبراهيم أنّه يذبح ابنَه إسماعيل، وعندما صرّح بذلك لابنه، ردّ بقوله: " قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ۖ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ".
وتبحث (عقليًّا) عن القيمة هنا التي عليك أن تحتفل بها، فلا تجد؛ فقتل النفس التي حرّم اللهُ قتلَها إلّا بالحقّ معصية، وطاعة الابن لأبيه فيما حرّمه اللهُ معصية.
ثم يأتي الفصل الثاني، وهو أن الله سبحانه وتعالى أمر الأب أن يفدي ابنه بذبحٍ سمين، ومن الشائع انتشارُ صور - هي بالطبع أسطورية - لمَلَكٍ طائر، وهو يحمل الذبح السمين ليُقدّمه لسيدنا إبراهيم، والبُسطاء من الناس يُسعدهم رؤية تلك المشاهد.
وتسألني: هل تؤمن بهذه الرواية كما هي، وبما تتضمنه من قيمة سماوية؟
أقول لك: أؤمن، ولا أشكّ لحظةً واحدةً فيما نصّ عليه قرآنُنا الكريم، ولا شكّ عندي فيما تحمله من قِيَمٍ دينية.
أين المشكلة إذًا؟ وهذا هو بيتُ القصيد.
المشكلة تكمن في عجزنا عن الفصل بين ما هو إلهيٌّ وسماويّ، وبين الواقع الذي نعيشه.
وإذا تأمّلنا جيدًا، وبحيادية وتجرد تام، إخفاقاتنا في الحياة، وانكسارنا أمام أعدائنا، ستجد أن هذه هي المشكلة:
أنّنا - وقد اعتدنا كمسلمين، وربما كنوعٍ من الإغراق في التديُّن - لا نعترض، ولا نرفض ما لا يقبله العقل والمنطق.
مع أنّ العقل والمنطق هو أعظمُ هديةٍ أهداها الخالقُ العظيمُ إلى الإنسان، وهي زاده وزواده أمام كلّ المصاعب التي يواجهها في حياته.
وبالتالي، لم يَعُدِ البحثُ والتمحيصُ والتقصّي قيمةً نتمسّك بها ونُفعّلها في كلّ ما يجدّ من مشاكلَ وأزمات،
حتى أصبح المثلُ السائر: "كله عند العرب صابون"، حقيقةً واقعة، حتى فيما يخصّ وجودَنا!
انظروا إلى ما يحدث في غزة.
انظروا إلى أطفالنا ونسائنا وأشقائنا.
لا تقولوا: "إنها من فعل إسرائيل"، بل هي من فعلنا.
إنها نتيجة للكذب القوميّ الذي نُمارسه في حياتنا السياسية ليل نهار.
الهزيمةُ نجعلها نصرًا، والمنهزمون الذين قبِلْنا أن نجعلهم أبطالًا يحكموننا،
المهزومون الذين حوصروا في الفالوجة، هم أنفسهم من صنعوا ٢٣ يوليو ١٩٥٢،
والقائدُ الفاشل في العدوان الثلاثي ١٩٥٦ ظلّ في موقعه،
وهو نفسه الذي عُهِد إليه حكمُ سوريا أثناء الوحدة ١٩٥٨، وظلّ في موقعه،
وهو نفسه الذي هيمن على حرب اليمن الفاشلة، وظلّ في موقعه.
فماذا تنتظر منه في حرب يونيو ١٩٦٧ إلّا الهزيمة؟
حاول عبد الناصر إقالتَه بعد كل واقعةٍ من تلك،
وفي كلّ مرةٍ يتراجع (عبد الناصر)، خوفًا على مكانه في السلطة،
وعلى حياته، وحياة أسرته.
تعالوا نضع يدَنا في يدِ بعض، ونهدمَ الجدرانَ الفولاذية التي تُحيط بأحداثنا القومية الفادحة،
ونجعلَ المحمية السياسية ساحةً مستباحةً لكلّ الباحثين والباحثات،
وتقومَ دولتُنا الموقّرة بمنح جوائزها التقديرية لكلّ من يُقدّم بحثًا التزم فيه بالحيادية والموضوعية،
فهذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ رقابنا، ورقاب المسلمين، من المجازر التي نراها هنا وهناك،
أمام أعيننا، ولا نستطيع أن نفعل شيئًا.
إحياءُ العقل يا سادة، إعمالُ العقل يا سادة، هو المخرجُ الوحيدُ ممّا نُكابده.
إحياءُ العقل، يا سادة، الذي رفع لواءه العالِمُ الإسلاميُّ الكبيرُ: الوليد بن رشد،
وأخذها عنه الفرنسيون، واخترقوا بها جدارَ القرون الوسطى، وصنعوا النهضة الأوروبية.
القرونُ الوسطى التي كانت تفرض ما يُسمّى "بحزام العفّة" على المرأة إن سافر زوجُها أو بَعُد عنها،
فيُغلِقون حياتها الجنسيّة بالضبّة والمفتاح علنًا.
القرونُ الوسطى التي كانت تُعطيك صكًّا مدفوع الأجر لتدخل به الجنّة.
وطبعًا: البلكون غير البنوار، وغير الترسو، كلٌّ بثمنه، وعلى عينك يا تاجر!
اللهم اغفر لي إن كنتُ أسرفتُ في إعمالي العقل،
ولكن خوفي على بلدي، وما يحدث في الجوار، هو ما يدفعني لهذه المخاطرة الجسيمة.
وإن غفرها الله لي، فهل يغفرها لي الإنسان؟
وفي النهاية لا يسعني إلا أن أردد ما قاله عمر الخيام
يا من يحـار الفهم في قدرتك وتطلب النفس حمى طاعـــتك
أسكرني الإثم ولكنني صـــحوت بالآمال في رحمتك
تعليقات
إرسال تعليق