اليوم ذكرى 23 يوليو 1952.
لن أقول "23 يوليو الأسود"، لا،
بل سأقول: "23 يوليو الأبيض، أو الأخضر، أو البُمبّي، يوم الخلاص، يوم الفرح
الذي عمّ مصر كلّها"، بأبنائها الذين قاموا بعزل الملك الفاسد – حسب ما
صوّرته الميديا الحرّة على مدى سنوات عديدة.
وبذا توقف تدخّله غير المُبرَّر في إقالة
الحكومات وفرضها، وبالتالي، تلقائيًا، ستُصبح مصر – بعد أن كانت ملكية دستورية –
جمهورية دستورية.
لكن... واحرّ قلباه...
بعد عشرين يومًا فقط من هذا "اليوم
السعيد" (23 يوليو 1952)، جاء يومٌ تعيس، إذ قام أبناؤُنا الأعزّاء بعقد محكمة
ظالمة، حكمت بالإعدام على اثنين من المواطنين، هما: خميس والبقري.
والجريمة؟ اشتراكهما في مظاهرة مع زملائهما
من عمال مصنع كفر الدوار للغزل والنسيج، للمطالبة بتحسين ظروف العمل.
(مع العلم بأن مظاهرات العمال والطلبة كانت
شيئًا عاديًا ومتواترًا في عصر ما قبل 23 يوليو 1952).
أصدر الحكم قائد الجناح جمال سالم.
والأدهى والأمرّ: أنهم نصبوا المشانق في
فناء مصنع كفر الدوار، وتم الإعدام علنًا، وفي وضح النهار، أمام الجماهير، بمن
فيهم أبناء وذوو المتهمَين، وزملاؤهما من العمال.
النتيجة؟
سكن الرعب قلوب المصريين، كبيرِهم وصغيرِهم.
الأمّة التي كانت تهتف أمام قصر عابدين:
"بسقوط الملك
فاروق!" أو "ابن نازلي!" – كما كانوا يهتفون في مظاهراتهم – صمتت
وهي في ذهولٍ من أمرها.
ثم قام جمال عبد الناصر بتقديم رشوة من
جيبه الخاص، مقدارها 4000 جنيه (تُعادل الآن نحو 4 ملايين جنيه)، إلى الصاوي محمد
الصاوي، رئيس نقابة عمال النقل بالقاهرة.
(المرجع: ص (111) من مذكرات قائد الجناح
وعضو مجلس قيادة الثورة عبد اللطيف البغدادي)
وذلك ليقوم بتنظيم مظاهرة تهتف بسقوط
الديمقراطية، وإلغاء الأحزاب، ورفض الحرية السياسية.
وهو ما قام به بالفعل، والهدف؟ تغليب
انحياز الشعب للخيار الآخر المطروح وقتها، وهو إعطاء "كارت بلانش" لمجلس
قيادة الثورة لاتخاذ ما يتراءى له من قرارات، دون الرجوع لأي جهة.
وقامت من بين المتظاهرين جماعة مختارة،
توجهت إلى المحكمة الدستورية. وكان بابها الحديدي مغلقًا.
ومن المعروف أن رئيسها هو العلامة عبد
الرزاق السنهوري، وكان مجتمعًا بالقضاة.
وبلعبة خسيسة، قام أحد المسؤولين عن أمن
المحكمة باستئذان المستشار الدكتور السنهوري للخروج إلى المتظاهرين، لتطييب خاطرهم
بكلمة منه، علّهم يهدؤون وينصرفون.
وشرب الرجل "المقلب"...
وخرج بحسن نيّة، واضعًا في حسبانه أنه، إن
فعل ذلك، فهو في حماية الأمن الذي استدعاه للفعل.
فإذا بالمتظاهرين يتلقفونه ويوسعونه ضربًا
وركلًا، حتى كاد أن يفقد حياته.
عندها فقط... تدخل الأمن.
وبعد تسعة أشهر، أي في مارس 1953، قام
الأبناء الأعزاء بالحكم بالإعدام على الحياة النيابية، التي بلغ عمرها 86 عامًا،
منذ حكم إسماعيل حتى تاريخ هذه الجريمة الشنعاء.
أسرى كل هذه الممارسات، وما تلا ذلك من
قرارات فردية، وعلى مدى عشرات السنين، تحولت مصر من أمّة... إلى شعب.
كنا أمة، أصبحنا – وما زلنا – شعبًا.
فما الفرق بين الأمة والشعب؟
أليس أحمد كالحاج أحمد؟
يؤسفني القول يا قارئي العزيز، أنني أفرّق
بين أحمد والحاج أحمد.
الشعب:
هم أناس تجمعهم غرائزهم:
غريزة حب البقاء، غريزة الخوف، الغريزة
الجنسية... إلخ.
فمثلًا، إذا حدث حريق، تدافع الجميع
لإخماده (حب البقاء).
وإن حدث غزو، سارع الجميع للدفاع عن أنفسهم
(حب البقاء أيضًا).
أما الأمة:
فهي أناس...
لكن ما يجمعهم ليس فقط غرائزهم، بل ما يزيد
على ذلك:
1.
وعيهم بتاريخهم.
2.
يعرفون أنفسهم، وما يقدرون عليه، وما لا يقدرون عليه.
3.
يعرفون عدوّهم معرفة منافية للجهالة: ما يستطيع، وما لا يستطيع، وما
هي نواياه نحوهم.
4.
يتحسّبون للعدوان قبل وقوعه، ويُعدّون أنفسهم لمواجهته في الوقت
المناسب. أما "الشعب": فلا يملك إلا أن ينتظر حتى يهاجمه عدوّه، عندئذٍ
يبدأ في التحرّك.
5.
الشعب لا يعرف الميزانية، ولا التخطيط، ولا المتابعة... الأمة تعرف
ذلك وتعيه جيدًا.
6.
الشعب غير قادر على إنتاج النُّخب... الأمة قادرة.
7.
الشعب: كل فرد فيه له دستوره، وعقيدته، وتوجّهاته، ولا يقبل الاستماع
لغيره.
أما الأمة: فإن اختلفت فيها الآراء
والاتجاهات، إلا أن الخطوط العامة غالبًا ما تكون واضحة للجميع، ويجيدون الاستماع
لبعضهم البعض، ومن ثمّ قادرون على اختيار الأنسب أو الأصلح لهم.
الأمة:
عندها المفكّر الذي تسمعه جيدًا، وقد تسير
خلفه أو خلف غيره.
عندها المغني الذي تقول له: "الله! ما
أروعك!" أو تطلب منه التوقف.
آسف جدًا يا أعزائي.
كنا أمة... أصبحنا شعبًا.
والفاعل: الحركة غير المباركة في 23 يوليو
1952، فقد تدحرجت الكرة عامًا بعد عام حتى وصلت إلى السفح.
ولكن...
هل هناك شخصٌ عاقل يعزو مشاكل اليوم إلى
واقعة حدثت قبل 73 عامًا؟
أعرف أني لست عاقلًا،
وأتمادى في قلة عقلي وتخريفي، إلى حدّ
القول:
"لا بناء... إلا بعد رفع الأنقاض."
فهل رفعنا أنقاض حركة 23 يوليو 1952؟
هل نقبل أن يطالب أحدنا برفعها دون أن
ننعته بالخيانة وغيرها من الصفات؟
هل أطمع في أن تتفقوا معي ولو مرة واحدة،
أنه لا بناء... إلا بعد رفع الأنقاض وتسوية الأرض؟
فهل نفعلها؟
أتمادى في قلّة عقلي، فأصيح بأعلى صوتي،
مهما يكن رأيكم:
لن أفقد الأمل.
فالشعب الذي أسقط خط بارليف بخرطوم مياه...
لا يمكن أن يموت أبدًا.
أو قدّس الله روحه،
الذي فعلها في 1973،
ليجعل رؤوسَنا في السماء.
تعليقات
إرسال تعليق