وزيرُ الكتاتيب
صدِّقْ أو لا تُصدِّق، وافقْ أو لا تُوافِق، حيِّني أو العَنْني:
خُروجُ الشَّعبِ المصريِّ، شبابًا وكُهولًا، رجالًا ونساءً، في ٣٠ يونيو ٢٠١٣،
كانَ تَعبيرًا عن الرَّفضِ التَّامِّ والبَاتِّ للدَّولةِ الدينيَّة،
وهو تأكيدٌ على علمانيَّةِ مِصر، ذلكَ الإرثِ الَّذي أورَثَنا إيَّاهُ محمَّد علي، حالَ انتزاعِهِ مِصرَ من أحشاءِ الخِلافةِ العثمانيَّة.
ومن يُرِدْ معرفةَ الفَرقِ بينَ ما كانتْ عليهِ الدَّولةُ الدينيَّة، وما صارتْ عليهِ الدَّولةُ العلمانيَّة،
فليتفضَّلْ بقراءةِ كتابِ الجبرتي: "عجائبُ الآثارِ في التَّراجمِ والأخبار"،
ليرى إلى أيِّ حدٍّ من الانحطاطِ والهَمجيَّةِ والجَهلِ والتفكُّكِ
سَادَ المجتمعَ المصريَّ آنذاك؛ لا قانون، لا أَمن، لا نظام،
وذلكَ بسببِ الحُكمِ المُتخلِّفِ للخِلافةِ العثمانيَّة.
وبإمعانِ الفكرِ، وتَحكيمِ الضَّمير،
سنكتشفُ أنَّ ما فَعلهُ الشَّعبُ المصريُّ في ثورةِ ٣٠ يونيو،
هو رسالةُ شُكرٍ وامتِنانٍ لنبيِّ الله، عليهِ أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام،
على الهديَّةِ الَّتي أهدَاها لأُمَّتهِ،
حتَّى يُجنِّبها الدُّخولَ في حومةِ الحيرةِ والتخبُّطِ وضلالاتِ المُضلِّلين،
وذلكَ بتوصيتهِ بإعمالِ العقلِ البَحتِ في كلِّ ما يخصُّ شأنًا من شؤونِ الدُّنيا.
وقد تَمثَّلَ ذلكَ في واقعتَينِ مَعروفتَين:
الأُولى: هي تَلقيحُ النَّخيل، وكانَ البيانُ بالحرفِ الواحد:
"أنتم أعلمُ بشُؤونِ دنياكم."
والثَّانية: هي واقعةُ الحُبابِ بنِ المُنذر، حينَ نزَلَ المسلمونَ بساحةِ بدر،
إذْ سألَ هذا الصَّحابيُّ بكلِّ ما يملكُ من كياسةٍ وأدبٍ،
النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم،
إذا كانتْ مرجعيَّةُ تَموضُعِ قوَّاتِ المسلمينَ في هذا المكانِ بعينهِ توجيهًا سماويًّا،
أم هي الحربُ والمَكيدةُ )أي: إعمالُ العقلِ البَحت).
وعندما كانَ الرَّدُّ في جانبِ إعمالِ العقل،
عرضَ هذا الصَّحابيُّ الجليلُ اقتراحَهُ الخاصَّ بتَموضُعِ القوات،
وكانَ ردُّ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام:
"أشرتَ بالرَّأي."
أي أنَّهُ أخذَ برأيِ الحُبابِ بنِ المُنذر فورًا،
ولم يَطلبْ مهلةً للقيامِ بصلاةِ الاستخارة،
ولم يكنْ هذا في حقيقةِ الأمرِ إلَّا توجيهًا للمُسلمِ،
ودَفعًا له للاستعانةِ بالنِّعمةِ الكُبرى الَّتي أنعمَ اللهُ بها على الإنسان،
وهي: العقلُ البَحتُ المُنَزَّهُ عن الهوى.
ما أعظمَكَ يا نبيَّ الله!
وما أعظمَها من رسالة!
وما أجلَّها من خارطةِ طريق!
________________________________________
وهنا نأتي إلى بيتِ القصيد:
البدايةُ كانت ثورةَ ٢٥ يناير،
قامَ بها شبابٌ لا ينشُدُ شيئًا غيرَ الحريَّة،
وليستْ فقط الحريَّةَ السِّياسيَّة، وإنَّما الحريَّةَ الفكريَّةَ والثقافيَّة –
التي حسبَ تَصوُّرِه – ستمكِّنُهُ من اللِّحاقِ بعصرِ الـ AI،
وبالتالي يكونُ شريكًا فاعلًا في كلِّ الأنشطةِ العالميَّة،
ولا يكتفي بدورِ المُتفرِّج أو المُنتفِع.
شبابٌ أرادَ أن يُزيلَ العوائقَ والمَتاريسَ
الَّتي تُكبِّلُ بأغلالِها القدراتِ الإبداعيَّةَ للإنسانِ المصري،
ولكنَّهُ لم يكنْ مُسلَّحًا بشيءٍ آخر غيرِ إيمانهِ بأفكاره،
ولا يَنضوي تحتَ مظلَّةِ تكتُّلٍ ما،
مُجرَّدُ أفرادٍ لا يجمعهم شيءٌ غيرُ الأمل،
فيهم أستاذُ الجامعةِ، وفيهم الصَّحفيُّ، وفيهم الأديبُ والموسيقيُّ والمفكِّرُ والعاملُ والفلاحُ وعابرُ السَّبيل.
وكلُّهم يحملونَ في عقولِهم وقلوبِهم ذلكَ التُّراثَ الحضاريَّ والتَّأجُّجَ الجينيَّ.
قامَ هؤلاءِ وهؤلاءِ بثورتِهم النقيَّةِ،
رفيعةِ الشَّأن، بلا سلاحٍ، ولا حمايةٍ،
وبتَلقائيَّةٍ مُفرطة،
وهُنا أخذَ الجيشُ المصريُّ على عاتقِه مسؤوليَّةَ حمايتِهم.
ولكنَّ الإسلامَ السِّياسيَّ، بقيادةِ الإخوانِ المسلمين،
بعد أنْ تَظاهَرَ بالانضمامِ إلى هذا الحِراك،
وجدَها فرصةً لا تُعوَّض، كي يَخطفَ هذه الثَّورة،
ويَصعدَ على أكتافِ بُناتِها إلى الحُكم، وهو ما كان.
وحَكَمَ البلادَ وهو يفتقرُ إلى المؤهِّلِ والقدرةِ والصَّلاحيَّةِ وسلامةِ القَصد.
وبدأ في اتخاذِ الخطواتِ اللازمةِ لقهرِ هذا الشَّعب،
الَّذي هبَّ عن بكرةِ أبيهِ في ٣٠ يونيو،
للزَّودِ عن هُويَّتِهِ الليبراليَّة والعلمانيَّة.
وكان يُمكنُ أن تَسيلَ دماءُ المتظاهرينَ أنهارًا بسلاحِ الإخوانِ،
لولا تدخُّلُ الجيشِ الَّذي دَفَعَ بهم بعيدًا.
ولكنَّهم لم يستسلموا،
وساد نوعٌ جديدٌ من حربِ الاستنزاف بينَ الدَّولةِ وجماعةِ الإخوان،
وأداتُها: الإرهاب.
واستمرَّ الحالُ على هذا النَّحو:
قُوَّةٌ تَبنِي، وأُخرى تَهدِم.
واعتَمدَتِ الدَّولةُ في حربِها على الأمنِ فقط،
ولم تُعطِ دورًا لتلكَ الجَذوةِ الليبراليَّةِ الَّتي حرَّكتْ الشَّبابَ في ٢٥ يناير.
ولكنَّ الدَّولةَ تَنَبَّهتْ إلى حاجتِها لما هو أكثرُ من الأمن:
الفِكرُ ووعيُ الجماهير.
لكنَّها رأتْ أنَّ الحلَّ هو: تغييرُ الخطابِ الدِّيني.
فلجأتْ إلى أولي الأمر (لا داعي لذِكرِ أسمائهم)،
وطالبتْهم بالقيامِ بواجبِهم نحوَ تغييرِ الخطابِ الدِّيني،
وناشدهم الرَّئيسُ علانيةً وعلى رؤوسِ الأشهاد،
أنْ يكونوا هم المدفعَ والدبابةَ في مواجهةِ الإرهابِ والتشدُّدِ والمُغالطاتِ والأحلامِ الشَّيطانيَّة.
لكن خَيبةَ أملِ الدَّولةِ فيهم كانتْ كبيرة،
فلا أحدَ منهم مَدَّ يدَه ليُقاوِمَ هذا الوباء،
(اللهم فيما عدا الشيخ الذَّهبيّ الَّذي بذلَ روحَه فداءً لمِصر).
ومن عجبٍ أنَّ هذهِ القضيَّة، رغمَ بداهتِها،
إلَّا أنَّ بها قدرًا غيرَ معقولٍ من التَّعقيد.
فصدِّقْ أو لا تُصدِّق:
إنَّ الدَّولةَ المصريَّةَ هي الأُخرى تخضعُ لسلوكيَّاتٍ تجاوزَ عمرُها الآن سبعين عامًا،
منذُ انقلابِ ٢٣ يوليو ١٩٥٢،
فهي تَرى أنَّ نارَ الإخوانِ ومعهم السلفيِّين، ولا جنَّةَ الليبراليِّين أو العلمانيِّين،
ولذلك كثيرًا ما تَحالفتْ معهم،
ولكنها لم تتحالفْ أبدًا مع "الشَّيطان" (اللِّيبراليَّة والعَلمانيَّة).
رغمَ أنَّ الليبراليينَ هؤلاءِ يملكون شهادةَ جدارةٍ وسابقةَ أعمال،
فقد صنعوا نهضةً عُظمى في الفترةِ ما بينَ ١٩٢٢ و١٩٥٢ (٣٠ سنة)،
سقطتْ خلالها ٤٠ حكومة،
ولم تسقط الدَّولةُ المصريَّة أبدًا،
بل كانت تَتقدَّمُ بقُوَّة:
بنكُ صناعة، شركةُ طيران، ٤ جامعات، ثقافة، فكر، صحافة حرَّة،
رابع بورصةٍ في العالم، دائنةٌ لبريطانيا العظمى، وسعرُ الدولار ٣٨ قرشًا!
ما الحل؟
الآن تُعاني البلادُ من أزمةٍ اقتصاديَّةٍ فُرِضتْ عليها،
ولم يَقِفْ وزيرُ الأوقافِ السَّابقُ ساكنًا،
بل أزمعَ التدخُّلَ ليُساهِمَ في حلِّها، عن طريقِ تهدئةِ الخواطرِ وطَمْأنةِ النُّفوس.
فماذا فَعَل؟
أطلقَ حملةً للصَّلاةِ على النبيِّ عليهِ أفضلُ الصلاةِ والسلام،
ولا أدري كيف فاتهُ أنَّ المصريينَ يُصلُّونَ على النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم في كلِّ أحوالِهم،
قيامًا وقعودًا، ذهابًا وإيابًا، في عملِهم وراحتِهم، وفي نومِهم وصحوِهم،
وفي صباحِهم ومساءِهم.
ولكنَّ المشكلةَ أنَّ المسؤولينَ عندنا دائمًا ما يَنأَوْنَ بأنفسِهم عن فعلِ ما ينبغي فعلُه،
ويكتفونَ بالمظاهرِ الإعلاميَّة.
فلا يمكنُ – مثلًا – أن تتخيَّلَ أن يقومَ وزيرُ "الصلاةِ والسلامِ على النبيِّ"
بجمعِ عددٍ من علماءِ المسلمينَ الأجلَّاء،
ويطرحَ عليهم هذا السؤال:
ما حكمُ الدينِ إذا ناشدنا المصريينَ – في هذا الظرفِ الاقتصاديِّ الخانق –
بتخفيضِ عددِ المُعتمرينَ نوعًا ما، توفيرًا للعملةِ الصعبة، الَّتي تُقاسي البلادُ من نقصِها الآن؟
مع عدمِ تفريطِه في دعوةِ الناسِ إلى الصلاةِ على النبيِّ – فنحنُ معهُ في هذا،
فليسَ هناكَ ما يمنع.
لكن مهامَّ الوزيرِ شيء، ومهامَّ الدُّعاةِ شيءٌ آخر.
خلطَ بينهما الوزير.
ولا زالَ السُّؤالُ قائمًا،
ولا زالَ الرئيسُ المهمومُ بمشاكلِ بلدِه يبحثُ عن الرِّجالِ
الذينَ يَملكونَ البدائلَ، ويَملكونَ الشَّجاعة.
لكن، كما يُقال:
"لا يَفلُّ الحديدَ إلَّا الحديدُ."
فأَتَ برجلٍ منهم، يكونُ أقلَّ تَشدُّدًا، وأكثرَ إيمانًا بالدَّولةِ المدنيَّة، وأكثرَ شجاعةً،
ووقعَ الاختيارُ على وزيرِ الأوقافِ الجديد: أسامة الأزهري،
الذي قدَّمَ نفسَهُ في فضائيَّاتِنا المُوقَّرة،
بصفتهِ الرجلَ الذي يُمكنهُ أن يتصدَّى للخطابِ الدينيِّ التقليدي،
ويُحرِّرَ البلادَ ممَّا تُعانيه من تشدُّد.
وبالفعل، شَمَّرَ الرَّجلُ عن ساعدَيه،
واتَّخذَ عدَّةَ قراراتٍ ثوريَّةٍ لأجلِ أن يُخلِّصَ مصرَ من هذه الآفةِ، أو هذا الفيروس،
وكانت قراراتُه كما يلي:
________________________________________
١ – العودةُ إلى نظامِ الكتاتيب،
ففيهِ عبقُ التاريخ، ويكفي أنْ يتشمَّمَهُ الشَّعبُ المصريُّ
ليقعَ في غيبوبةٍ لذيذةٍ حُرِمَ منها طويلًا!
________________________________________
٢ – شَكَّلَ فِرَقًا دعويَّةً تطوفُ في الأقاليم،
وكأنَّ الناسَ ناقصونَ عقلًا ودينًا!
(حلاوة بالبقلاوة...)
________________________________________
٣ – اشترتِ الوزارةُ ٥٠ طنًّا من اللحم،
لتقومَ بتوزيعِها على الغلابة،
أي: ٥٠٠٠٠ كيلوجرام من اللَّحم، لإرضاءِ ٥٠٠٠٠ مواطن من (نقول كام؟)
٢٠ مليون مواطن، أو أكثر أو أقل!
واحسِبِ النِّسبةَ يا سيِّدي القارئ!
هذا ما أسهَمَ بهِ وزيرُنا العظيمُ في حلِّ المشكلةِ الاقتصاديَّة!
(فضيحةٌ، أليسَ كذلك؟!)
________________________________________
سيِّدي الوزير،
أنتَ لم تُغيِّرِ اللَّحن،
وإنَّما غيَّرتَ آلاتِ العزف!
آسفٌ جدًّا،
سيِّدي، ثورتُكَ ليست ثورةَ إنقاذ،
بل ليستْ حتَّى ثورةً بالمَرَّة!
وأنصحُ الدولةَ بأن تُوفِّرَ إنفاقَها...
________________________________________
سيِّدي الرَّئيس،
يُؤسفني القولُ إنَّه – رغمَ نُبلِ ونزاهةِ القصد –
إلَّا أنَّ الدولةَ دخلتِ الحارةَ الخطأ!
توجَّسَتْ خيفةً من اللِّيبراليَّةِ والعَلمانيَّة،
وذهبتْ بنفسِها إلى أولئك الَّذينَ هم – في حقيقةِ الأمر – محلُّ الدَّاء.
________________________________________
سيِّدي الرَّئيس،
قالها توفيق الحكيم يومًا لعبد الناصر:
"السَّيف (الأمن) يحميك ويُهدِّدك،
القانون (اللِّيبراليَّة) يحميك ويُتحدِّاك."
( مسرحيَّة السُّلطان الحائر)
وفي النِّهاية، القرارُ قرارُ فخامتِك.
سيِّدي الرَّئيس،
أُطمئنكم:
إنَّ شعبَنا بخير،
ووَعيَه بخير،
وتقديراتِه بخير،
وأنَّ الثِّقةَ فيه أجدى بكثير من الثِّقةِ في أولئك.
(فحِسابُهم على الله.)
ويمكنُ الاعتمادُ على تقديراتِه وتجليّاتِه،
وقد رأيناها جميعًا في ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
تعليقات
إرسال تعليق