إنهم يقتلون الحمير

  

إنهم يقتلون الحمير ...........منشور اليوم 4/12/2018 بصحيفة القاهرة

مسرحية ظهرت فى السابق بهذا الاسم، تأليف الكاتب لينين الرملى،  تمنيت أن يتحول الاسم إلى قضية رأى عام باعتباره نوعًا  من التطهير العرقى، فيظهر من يسأل  " لماذا يقتلون الحمير ؟ " ومن يرد "لهذا قتلنا الحمير" ومن يصف " هكذا قتلنا الحمير" ومن يغضب "ما كان يجب قتل الحمير" لم يحدث شيئ من هذا، والأكثر لم يقف مسئول عموم الحمير فى مصر ليعلن "  فشلنا فى قتل الحمير" .

بسبب ما يعترينى فى مطلع كل ربيع من خبلان غير معروف أسبابه حتى تاريخه، أرجعت هذا القصور إلى نقص مادة الفلسفة فى دمائنا نحن الشرقيين.

فهى ـ أى الفلسفة ـ  كغزو الفضاء..تهدف لتحقيق غاية نعرف مسبقًا استحالتها، ومع ذلك فهى فرض عين على العقل البشرى، كما أن غزو الفضاء فرض عين على التطلع البشرى.  المفارقة أن هذا السعى المقطوع بعدم جدواه، قدم للبشرية مكاسبًا ضخمة لم تكن فى الحسبان، سبائك تجمع بين متضادين، خفة وزن وصلابة، وجبات غذائية تجمع بين متضادين، حجم مشنة خبز، وحجم قرص إسبرين، لوحة فى مساحة ظفر عليها ملايين المكونات الالكترونية المجهرية، مستويات متصاعدة من الحساسية المفرطة فى مجالى الصوت والصورة، خلايا ضوئية بالغة الكفاءة، روبوتات فاجرة، وغيره مما لا أعرفه، وما أخفوه عمن هم مثلنا  على باب الله.  

نفس الشيئ بالنسبة للفلسفة، لم تشف غليلنا بإجابة شافية على أى من الأسئلة الكبرى، ورأينا نيكوس كازانتزاكس يصور ذلك فى روايته "زوربا اليونانى" فى حوار بين باسيل المثقف الذى (يعرف كل شيئ)  وزوربا، الانسان البسيط الذى (لا يعرف أى شيئ) غير التفاعل مع الحياة، واستقطار مسراتها، والمعبرعن ولعه بها  برقصة عفوية، بدت كروضة يمرح فيها وحده... حدث أن تذكر وحيده ـ مات فى الثالثة من عمره ـ  ركبه حزن مفاجئ، سأل باسيل الذى ( يعرف كل شيئ ) لماذا الصغار يموتون؟ وإزاء صمته عاد يسأل، ماذا تقول كتبك عن الموت؟ رد بقوله  "إنها تسجل أسي كل الذين عجزوا عن اجابة سؤالك" رد زوربا، ابصق لى على أساهم

رغم هذا الفشل المدوى ألذى كابده كل من تفلسف، فإن اقتراف الشعوب الأوربية للفلسفة، حقق لها انجازات لا تقدر بثمن، بل يمكن القول أنها صانعة الحضارة التى يرتع الانسان فى ربوعها الآن، متفلسفًا كان، أو غير متفلسف، عالمًا كان، أو جاهلا، إذ حرضتهم على طرح السؤال "التالى" بالجرأة الواجبة، والجدية الواجبة، والحيدة الواجبة، والإصرار الواجب، وهو ما خلصهم من جذور الوهم، ونقل الاسطورة من خانة الجد، إلى خانة تسالى يا لب، ووضعهم وجهًا لوجه أمام حقائق الحياة بصورتها المجردة، وبخيرها وشرها، ودفعهم للتحديق فى كل مكوناتها بلا خوف أو وجل، مما جعل موائدهم تزخر كل صباح بمعارف لم يكن لها وجود حتى الثانية عشر، ليلة امبارح .

إذا كانت الظاهرة أنهم يقتلون الحمير، لماذا يقتلون الحمير..إنهم يتحرشون بالنساء لماذا يتحرشون بالنساء، إنهم يذبحون الرجال، لماذا يذبحون الرجال؟ إنهم يحطمون التماثيل، لماذا يحطمون التماثيل ؟ إنهم يفجرون أنفسهم وسط الناس، لماذا يفعلون ذلك؟

أدرك الأوربيون قيمة سقراط..أعدموه جسدًا وأبقوه فكرًا وسلوكًا ونموذجًا "الآلهة التى تسقط بسبب توجيه الأسئلة ليست آلهة، عقول الشباب لا تخربها الأسئلة على العكس من ذلك إنها تمدهم بحيثيات قناعاتهم"

 سألت نفسي " لماذا يفجرون أنفسهم وسط الحشود؟ " منهج سقراط"  وكنت جريئًا فى استخدام عقلى " منهج كانط "  وجدت أن الحكاية لها أساس قد لا يخطر على البال، وقد يبدو أبعد ما يكون عن التصور، ألا وهو شخصنة الله، أو أنسنته. أى اعتباره جل وعلا شخصًا مثلنا وإن كان على كل شيئ قدير، وهذا فى حقيقة الأمر سلوك غير مقطوع الصلة بتاريخ علاقة الانسان بالله، فآلهة الاغريق لم تكن غير  " slides " شرائح من الانسان نفسه، أعطِىَ لكل شريحة إسم، مثل إله الحب، إله الجمال، إله الحرب ألخ، كما أن الانسان عندما يصنع صنمًا ليعبده فمن التبسيط المخل تصور أنه يجهل أنه جماد لا نفع فيه ولا ضرر منه..هو يعرف..لكنه فى لحظات تعبده يفقد بعض وعيه، ويخلع على الصنم بعض ذاته، فتدب فيه حياة افتراضية تقوى وتضعف حسب نصيبه من الغيبوبة اللحظية ..النعمة ـ الخاصة جدًا ـ التى أنعم الله بها علينا لتحررنا لحظيًا من سلطان العقل، فنتفاعل مع الفنون باختلاف أنواعها، فنضحك أو نبكى عند مشاهدة فيلم أو مسرحية، نذوب فى سطور رواية أو بيت شعر،  تهتز أجسادنا لا شعوريًا مع لحن راقص، نحلق فى الآفاق مع كونشرتو للكمان والأروكستر، نهجع ونحن نسمع الشيخ محمد رفعت، فالصنم ليس أكثر من رقعة يبنى الاتسان فوقها تهويماته، وينشر عليها مخاوفه وآلامه وابتهالاته وأشجانه وطموحاته واخفاقاته وحيرته مدفوعًا بحالة الاستنجاد بالله الذى بداخله ـ وداخلنا فى الحقيقة ـ مستعينًا بالبخور والتعاويز وتشجيع من الأب والأم، والحارة  وضغوط مستمرة من ( هَبْو ) روح الجماعة كما وصفها جوستاف لوبون فى كتابه "روح الجماعات" وعندما تنتهى الحالة أو الجلسة يعود الصنم الى مرتبته كجماد، يحطمه يأكله يركله، وعندما يحتاجه يصنعه من جديد، أو يرجع له فى المخزن أو المعبد.. فقط..عندما نزل القرآن الكريم على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم قدم لنا تعريفًا لذاته العلية " ليس كمثله شيئ "  لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد " إلى غير ذلك مما ورد فى الآيات الكريمة.. بتوالى القرون واتساع المسافة بيننا وبين النبع الصافى للرسالة المحمدية، وتعدد قطاع الطرق، أوغل العامة فى سيرهم المغلوط نحو أنسنة الله.. حتى أصبح هناك من يصنع إلهه على شاكلته، يغضب ويرضى، يكره ويحب، يسامح ويثأر، يفى ويحنث، إله من نفس خامته، طينى، ترابي، لا يلومه على خطاياه، ونفاقه، ألخ.

 بارك بعض رجال الدين هذا الاتجاه، لملاءمته لقدرات العامة، بينما رأت فئة أخرى أن التجسيد خير معين لهم على تخويف مريديهم من عذاب النار، ولاحظوا أنه كلما تعاظم خوف الناس تعاظم نفوذهم وسيطرتهم عليهم، فهم من يعرفون مسالك العتق من النار بعد قيام الساعة، والعتق من عذاب القبر قبل قيام الساعة أى الآن إن حدثت الوفاة، ويبدو أنهم وجدوا فى عذاب القبر  ضالتهم فزادوا وفاضوا فيه على المنابر وفى الفضائيات، وطبعوا ما لا حصر ولا عد له من الكتيبات التى توزع فى الغالب مجانًا بتمويل من تبرعات أهل الخير، ولم يتورع ضعاف النفوس عن استغلال رعب الناس فى تحقيق مكاسب مادية و سياسية لا تحصى ولا تعد.

ومع ذلك فهناك من الخاصة من لم يحد عن اعتقاده بأن الله لابد أن يكون أكبر وأعظم من الكون الذى نعيش فيه، لكونه خالقه، ومن الخاصة أيضًا من أنكر وجود الله جملة وتفصيلا.  لكن مع كل هذا التباين، بل والتناقض ظل الكل يعيش مع بعضه البعض دون حاجة لتصفية الآخر لا فكريًا ولا جسديًا، وإنما فكر يواجه فكرًا، ورأى يصارع رأيًا، وكل منه لله، دون تدخل الرصاص أو القنابل. فماذا حدث؟

                                    الحكاية

ـ الشرق  كما أوضحنا بدأ، فى شخصنة الله مستهلكًا طاقاته، موظفًا فيها كل ملكاته، موغلا فى أوهامه، مجسدًا لها فغرق فى المحدود، وبعد عن المجرد، وبمرور الوقت وازدياد القطيعة عجز عن تجاوز الذات، والسباحة فى الفضاء المحيط بها، فانحسر خياله، وضمرت ملكات التصور لديه، وصنع لطموحاته وتطلعاته العلمية والفكرية والفلسفية سقفًا خرسانيًا لا  يمكن أو لا يسهل تجاوزه، ومع ذلك لا أنا ولا غيرى يمكنه انكار ما حفل به الشرق من مفكرين وفلاسفة لهم آراء وثابة وأفكار خلاقة، وكان على رأسهم بالطبع الوليد ابن رشد، الذى فتحت فلسفته الطريق أمام النهضة الأوربية، لكن للأسف ذهبت أصواتهم أدراج الرياح.

ـ الغرب وجد من بينه رجال شجعان، رأوا  أنه لا خروج من ظلمات العصور الوسطى إلا باعادة اكتشاف العصر الكلاسيكى الذى امتزجت فيه الثقافة اليونانية بالثقافة الرومانية. وشرعت هذه الطلائع الثقافية فى تجهيز البنية التحتية اللازمة لحمل ما قد يستجد من أبراج شاهقة، فشمر كوبرنيكس عن ساعديه وهوى بمعوله على واحدة من أكثر الضلالات رسوخًا ومركزية وهى أن الأرض ثابته بينما الشمس هى التى تدور حولها، وجاء جاليليو جاليلي  ليؤكد نظرية كوبرنيكوس، ويزيد.. الأرض كروية وليست مسطحة، ويشاء العلى القدير أن تكون الكلبة لايكا أول من يرى الأرض ككرة صغيرة تسبح وحيدة مهيضة الجناح وسط لا نهائية الكون وجبروته، ولكن ـ بنت الكلب ـ لم تفتح فمها بكلمة واحدة تصف بها روعة ما شاهدت، وتبدأ الثورة على الكنيسة  بظهور مارتن لوثر، وظهور المذهب البروتستانتى، كطبعة عصرية للمسيحية التى فقدت بكارتها وبساطتها فى غياهب العصور الوسطى، ويسطع النور باصدار ديكارت اعلانه المدوى تفكر أنت موجود لا تفكر لا وجود لك، وتتدافع الكشافات، يظهر فولتير وروسو، وتقول الثورة الفرنسية كلمتها، ويأتى دارون ألذى يدهشه أن يتماثل الانسان والحمار فى امتلاكهما لعضلات بالأذن يستخدمها الحمار فى تحريك أذنيه بينما يحتفظ بها الانسان فى ألبوم ذكرياته البيلوجية، تترنح نظرية الخلق الخاص، ولا تجد أمامها غير افساح مكان ( فى ريحها ) لنظرية التشوء والارتقاء، وتجلس الخصمتان على نفس الأريكة المتهالكة، وقد أدارت كل منهما ظهرها للأخرى، ويأتى كارل ماركس، ألذى لا يرضيه أن ترتب الأرزاق بمعرفة الخلاق، فيضع لبنات نظام اقتصادى مركزه الانسان والدولة وليس الله، وتهجم كتائب الفيزيائيين والرياضيين والكيمياويين ويعملون بنظام ( إيد واحده ) ويحققون فى المائتى سنة الأخيرة اكتشافات واختراعات مذهلة، فإذا كان الله  خلق الخيل والحمير فالانسان صنع السيارة والقطار، وهما أسرع وأكفأ وزينة أيضًا، وإذا كان الله عز وجل خلق الطير فقد استهوت الفكرة الانسان وطار هو أيضًا فى مركبة ميكانيكية أكبر وأسرع، ونقل الصوت والصورة فى أرجاء الكرة الأرضية بلا وصلات مرئية أوملموسة، وجسم الانسان لم يعد الطلسم السابق، إذ تجول الانسان بنفسه داخل نفسه مستخدمًا مناظيره، ومشارطه، ثم نجح فى تقطيعه طرنشات بأشعته المقطعية دون إراقة نقطة دم واحدة، ووظف الموجات الصوتية فى التجسس عليه، وعرف ما تخفى الأرحام، وجاء آينشتاين بنظرية النسبية لتلزم قوانين نيوتن البيت ( الأرض )  باعتبارها قوانين محلية أو اقليمية تخص الأرض فقط، أما الكون الشاسع فمحكوم بقوانين أخرى تليق بمقامه الرفيع، وفرد علم النانو تكنولجى قلوعه وغير خصائص العناصر فأسقط الذهب من مكمنه بين النهود، وسخره للعب دور المخبر كوجاك فى البحث عن الخلية السرطانية وتدميرها، واقتحموا منظومة الكروموزومات ولعبوا وتلاعبوا بالصفات الوراثية من خلال ما أسموه بالهندسة الوراثية التى نرجوا ألا تتحول إلى التخريبية الوراثية، وأطلق التشكيليون العنان لخيالهم، وأخذوا يحاولون صنع جمال يتجاوز الجمال، والنحاتون فتنتهم تكوينات خلق الله فأخذوا يحاولون تقليدها وإضافة ما يجود به خيالهم، حتى بات التمثال وكأنه أغنية يترنم بها المثال، ويقف الناس خلفه كالكورال يرددون الله الله ، ثم ها هى الآلات الموسيقية  تنافس أصوات الكائنات والطبيعة، فاخترعت حناجر صناعية، هذه فيولينا والثانية تشلو والثالثة ترومبيت، وتقف أم كلثوم وسطها لتعرض فيض الله،  والناس تهتف عشرة على عشرة يا ست، ونجح الموسيقيون ومصمموا الرقصات فى تجسيد الايقاع الالهى بتحويله من نسق صامت وغير مرئي إلى أنساق مسموعة ومرئية، وزاد الروائيون الطين بلة فصنعوا حياة افتراضية من أشخاص تولد على الورق وتكبر ثم يفرضون عليها الموت أو الحياة، السعادة أو الشقاء،  ونتيجة لثورة الاتصالات والمعلومات صنع الانسان حول الأرض غلالة من الأخبار والشعر والموسيقى والمعرفة وجعلها تحت الطلب، وفى السنوات الأخيرة صنع ذاكرة كونية إذ كوَّم كل ما يملك من معلومات تحصل عليها السلف والخلف ووضعها على الشبكة العنكبوتية ( انقر تعرف ) أو (  click to know  (، عندما عجز عن أن يحقق الخلود لنفسه كفرد، خلد نفسه كجنس باختراع ما  يعرف بالتاريخ، وعرض ال CV  الخاص بجنسه فى المتاحف، وجعل من آثار أسلافه مزارات يهرع الجنس كله لمشاهدتها تأكيدًا لخلوده، تقلصت المسافات، والتصقت الشعوب، وظهرت البشرية الكتلة أو الكيان الواحد، لها شخصيتاها الطبيعية، والاعتبارية، وظهرت مؤسساتها الكونية كالأمم المتحدة واليونسكو واليونيسيف وحقوق الانسان، ولها محاكمها الدولية، ولها ذاكرتها الكونية " الشبكة العنكبوتية" بل ولها ملكة جمال واحدة خلعوا عليها لقب ملكة جمال الكون، وأطلقوا أقمارا صناعية تشرف على كل هذا، وتبث صورًا وبرامجًا تعكس فرحة الانسان بذاته، وسكوا  لكل ذلك اسمًا حركيًا هو العولمة.  

ـ ورغم ضخامة الانجازات إلا أن محققيها لم يركبهم الغرور بسبب ما تكشف لهم  من لا نهائية الكون، وما يكمن فى قاعه من أسرار، وما يمكن أن تتمخض عنه من اكتشافات مذهلة.

بالنسبة للشرق وفى القلب منه مصر مقر الأزهر الشريف، الصرح الاسلامى العالمى، فقد رأينا فيما وصل له الغرب من علم تحديًا للشيئ الوحيد الذى نملكه، وهو علوم الدين، ورأينا فى الاكتشافات والاختراعات التى حققها الانسان فى الغرب شيئًا مهولا علينا أن نحمى أنفسنا منه إذا كنا نريد الاحتفاظ بكبريئنا أمام أنفسنا، وبنينا خطة دفاعنا عن أنفسنا ليس على أساس التعلم منه والتفوق عليه كما فعلت اليابان وإنما على أساس التقليل من شأن علومه ونبذها وهو  ما دفع شيوخ الأزهر إلى رفض  ادخال العلوم الطبيعية للأزهر، وفى تاريخ لاحق قام الدكتور مصطفى محمود  من جانبه بعقد صلح منفرد ( قعدة عرب ) بين العلم  والايمان من خلال برنامجه التليفزيونى الشهير "العلم والايمان" وبالطبع لا يمكن أن يعقد صلح دون وجود خصومة، ثم قدم الدكتور زغلول النجار على صفحة كاملة بجريدة الأهرام مقالا أسبوعيًا استمر عدة سنوات هدفه الوحيد التأكيد على أن العلم ـ الذى وصل له الغرب الآثم ـ  لم يأت بجديد فكل شيئ مذكور فى القرآن الكريم، مع أنه لا أحد أنكر ذلك حتى يبذل كل هذا الجهد لتأكيده. وعاد سيد قطب من الولايات المتحدة معلنًا على الملأ أن حضارة الغرب حضارة بلا قيم، وكأن العدل السائد فى بلادهم ليس قيمة، التعليم الجيد ليس قيمة، البحث العلمى الدؤوب ليس قيمة، العمل الجاد والمضنى ليس قيمة، التكافل الاجتماعى الممثل فى دفع راتب للعاطل عن العمل ليس قيمة، الابداع ليس قيمة، الاهتمام بالتراث الانسانى وتوثيقه والمحافظة عليه ليس قيمة.. انفصال السلطات ليس قيمة، وخلطت الجماعة الارهابية الأوراق وهدمت الحاجز القائم بين ما هو سياسي وما هو دينى وأصبحت عسل بصل تمر هندى

الويل لمصر ان وجد من يمكنه تزويد العامة بما يقتاتون عليه من فكر ضحل مغلوط، والويل لنا منهم إن وجد من يملك مهارة تحريكهم وتوجيههم ..هو الدمار بعينه.. وهو ما حدث بالفعل فقد تلقى الجهلاء الرسالة ووصل سم كراهية الحضارة الغربية إلى نخاعهم، والغريب أنهم لفظوا معلميهم الأول، الذين وضعوا أولى جرعات السم واستخرجوا من بين ظهرانيهم رواد من جنسهم، أنتجو ما هو أكثر سمية، لهم أفقهم المحدود، وكتبهم الخاصة، وتحليلاتهم الخاصة،وطرقهم الخاصة فى الاقناع وأدواتهم الخاصة الفتاوى الجنازير والنظرات الصارمة.

نتيجة لما سبق ذكره من أنسنة العامة لله عز وجل، وتلاقح ذلك مع الكراهية للحضارة التى بثها الكبار، وظهور علماء آخر صيحة الذين نوهنا عنهم، ثمنت العولمة بأعلى من قيمتها بمراحل، ونصبوها ذاتًا بشرية تناطح الذات الالهية ـ والايعاذ بالله ـ فاندفع العامة للانتصاف لله والزود عنه من المعتدين على ذاته العلية، فشنوا حربًا لاهوادة فيها، العدو فيها هو الانسان، ذات الانسان وليقنعوا أنفسهم ويقنعوننا أنها حرب لحساب الله، وقتل لحساب الآخرة وليست لحساب عرض الدنيا، ألصقوا الأحزمة الناسفة بأجسادهم لتمزقها جنبًا لجنب مع أعداء الله ، وأصبح تفجير الانسان بالجملة طقسًا دينيًا، وبتدخل السياسة وشراهة جمع المال تم صنع الفطيرة المسمومة التى  اسمها الارهاب.

ومع ذلك لن ننكر أنها ذات بشرية تجمع بين الشخصية الطبيعية والشخصية الاعتبارية    

ـ الطبيعية وقوف الانسان بزاوية تسعين درجة على الأرض فى تحد سافر لجاذبيتها

 يمشى على رجلين لا أربع، له قوام بديع ووجه أبدع، وقدرة على التعبير بالصوت والصورة.  

ـ الاعتبارية الحق فى الاختيار، القدرة على التفكير والتحصيل، القدرة على الابداع ( الخلق ) ، الخلود ....خلودالجنس لا الفرد ممثلا فى التاريخ

لكن السؤال هل هذه الذات البشرية من صنع نفسها أم من صنع الله؟ لست أنا الذى أجيب ولكنها الآية الكريمة " وإذ قال ربك للملائكة إنى جاعل فى الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إنى أعلم ما لا تعلمون "  اعلان من قبل الله سبحانه وتعالى مفاده أنه سيعين خليفة على الأرض، ورغم أنه لم ينص على ما اذا كان خليفة له أم لا، إلا أنه حسب ظنى والله أعلم أوحى للملائكة بتوجيه سؤال  إجابته ستحسم كل شيئ وأقول أوحى لأن الملائكة ـ فى ظنى أيضًا ـ لا تملك دوافع ذاتية لتوجيه أى سؤال، فهى توجد فى فضاء أحادى القطبية، على عكس دنيانا ثنائية القطبية، حيث لا يوجد شيئ ليس له نقيضه ..سالب موجب، موت حياة، قوة ضعف، أبيض أسود، خير شر وقس على ذلك عشرات وربما مئات الموجودات .. كما أنها أى الملائكة غير محكومة بغرائز كالانسان والحيوان  ..حب البقاء..الخوف، الجنس، كما أنه ليس لها حاجات يتحتم اشباعها كالهواء والماء والغذاء وإلا هلكت، وبالتالى فهى توجد فى فضاء بلا أى نوع من المشاكل المعروفة لنا والتى تدفعنا للسؤال والاستفسار،  ولأنه لا سؤال بلا دافع فلابد أن يكون الدافع هنا هو الايحاء، والسؤال هنا ليس لحساب الملائكة، وانما لحساب منطقية الخلق بالمواصفة التى شاءها الله عز وجل، كما أن الله وليس الملائكة هو من يعلم أنه ما أن يمنح أحد مخلوقاته حق الاختيار، حتى يصبح الأمر مفتوحًا على كل الخيارات، إما خيرًا أو شرًا، وأقصى ما فى الشر هو سفك الدماء، ويجيب الله بالاجابة التى يريد أن تكون بيانًا حاسمًا " إنى أعلم ما لا تعلمون " أى خليفة بمعنى خليفة، وما لا تعلمه الملائكة ويعلمه الله ـ قبل خلق الانسان ـ عرفناه نحن البشر عمليًا، وهو أن تفويض السلطة لن يكون تفويضًا كاملا، هذه واحدة، وسيكون محكومًا بالموت ( غير المقدر على الملائكة) الثانية ، والألم ( غير المقدر على الملائكة ) الثالثة، والعوز والفضيحة ( جرائم مخلة بالشرف ومنها المثلية ) الرابعة.  وهذه الأحكام هى ما ستلزم الانسان بحجمه كمخلوق فان، وستجبره على الندم على خطاياه، ومنها سفك الدماء، وتدفعه للتطلع للسماء بحثًا عن الخالق، وتذهب به طوعًا إلى المسجد أو الكنيسة أو المعبد ليقدم فروض الطاعة، "وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون صدق الله العظيم "  ويطلب المغفرة والرحمة التى جعلها الله سبحانه وتعالى فى مقدمة صفاته، لأنه يعلم قسوة الظروف التى كتبت على الانسان " لقد خلقنا الانسان فى كبد صدق الله العظيم  " سورة البلد .

من هنا تتضح قيمة الانسان كمخلوق له وضعه الخاص فى الكون بأمر من الله، ويصبح احترام الانسان وتكريمه أول الطقوس الدينية، ويصبح تفجيره معصية للخالق عز وجل، ونكون نحن كمسلمين الأولى بالدفاع عن حقوق الانسان بصرف النظر عن العرق والدين، ونكون الأولى بالاحتفاء بالعولمة ولا غرو فقد قال رسولنا الكريم قبل اربعة عشر قرنا " لا فضل لعربى على عجمى الا بالتقوى" فماذا يكون هذا الحديث إلا دعوة للعولمة؟ واحترامًا للذات البشرية بصرف النظر عن اللون والعرق واللغة   ....... والله أعلم

تعليقات