تراجيديا النهضة المصرية

  

تراجيديا النهضة المصرية .................منشور اليوم 7/ 1 / 2019

                             تراجيديا النهضة المصرية  

أخذت عهدًا على نفسي أن أستدعى التاريخ كلما أزمعت الكتابة فى شأن من شئون بلدى، وفى المرات التى حنثت فيها بعهدى حضر بنفسه ووضع أنفه فى المسألة بطريقة تفتقر إلى أى قدر من الكياسة....... عجبى  .

أدهشنى ـ وإن لم يثلج صدرى ـ ما ألقى به أمامى من معلومات و حكايات ومواقف وكلها تخص النهضة، وأبكانى، وبكى، على ما ضيعنا من فرص، وما بددنا من تراكمات، قيمتها فى مضمار السباق الأممى لا تقدر بثمن.

ـ يقول التاريخ أن محمد على هو الحاكم المسلم الوحيد فى زمانه الذى بلغ الذروة فى احساسه بالمعاصرة، واستيعابه لما اجتاح العالم من صحوة حضارية جراء الثورة الفرنسية باشعاعاتها الفكرية، وإيماءاتها  الكونية.

النهضة أى نهضة يلزمها شروط ثلاث، إرادة سياسية، موارد متاحة، ثم ما يسمى ب ( know how ) أو المعرفة  التقنبة.

 الارادة السياسية: محمد على

الموارد: أراض زراعية بالغة الخصوبة، نهر متدفق، مناخ مواتى، موقع جغرافى متفرد

 المعرفة التقنية:   مهندسو جماعة السان سيمونيين، ومن تصادف بقاءهم من الفرنسيين  بعد انتهاء الحملة، وشيئ آخر لا يقل أهمية هو طريق القاهرة باريس " رايح جاى " الذى افتتح مع الحملة.

يقول التاريخ أن نهضة مصر نجحت نجاحًا مبهرًا، وفى نحو نصف قرن حصلت على مركز لا نظير له  فى الاقليم بشقيه الافريقى والأسيوى.

مات محمد على، فقد المثلث الذهبى للنهضة أهم أضلاعه، خَلَفه عباس الأول بتركيبته غير السوية وقصر نظره المرضى، لم تجد النهضة من يتعهدها ويواصلها، السبب .. الارادة السياسية ارادة فرد لا ارادة أمة، والفرد كما يموت الناس مات، ولم تكن تلك مسئوليته لأن الأمة المصرية  فى هذا الوقت لم يكن لها وجود، ومن كان له وجود وقتها هو الشعب، وشتان بين الشعب والأمة، فرق كبير، أوضحته  فى مقال سابق، وأوضحه الآن وفى المستقبل، فى هذه الصحيفة وفى أى صحيفة، وفى الاذاعة والتليفزين وعلى النت، وسأسره فى أذن كل من أقابله فى المترو فى الأتوبيس فى الشارع  فى الافراح فى المآتم، سأكتبه على جداريات فى الشوارع ( الأمة غير الشعب ) وذلك للصلة العضوية بين هذه التفرقة وبين النهضة، بل وبين تاريخنا ككل " الشعب هو ناس .. بشر .. يجمعهم شيئ واحد هو غريزة حب البقاء ..حريق جروا لاطفائه..غزو أجنبى هبوا لمقاومته.. موت تزاحموا لحمل النعش. الأمة شيئ آخر، ناس. بشر نعم ولكنهم يتمحورون حول تاريخ يكمن حيًا فى وعيهم ولا وعيهم، كما أنهم على وعى تام بأمنهم القومى، ولاعبون أساسيون فى مضمار سباق الأمم،  لهم نخبهم من مفكرين وحكماء ومبدعين، ولديهم شخصياتهم العامة الفاعلة، يمتلكون ثقافة الدفاع عن النفس، ينتظمون فى أحزاب ونقابات ومجتمع مدنى حى متدفق، لهم أهدافهم بعيدة المدى وقصيرة المدى، يعرفون التخطيط والمتابعة والعديد من السلوكيات والمهام ذائعة الصيت عالميًا " . فى غياب  نموذج الأمة تنحط قيمة الشعب فى نظر الحاكم، وعلى أحسن الفروض تتساوى مع الموارد، الأرض والنهر والمناخ.

تمثلت الارادة السياسية مرة أخرى فى الخديوى اسماعيل، شرع فى العمل بحماس ودرجة عالية من الانفتاح على العصر، حول القاهرة  إلى باريس الشرق، وصدح صوت السوبرانو فلان الفلانى لأول مرة فى أجواء الشرق، لكن واحر قلباه سكتت الموسيقى أطفئت الأضواء وتوقف العرض فجأة.. السبب... الارادة السياسية الفردية أعلنت عن عوار آخر غير الموت، هو الخلل الشخصى، افراط وعجز عن كبح جماح النفس، خرج عليه قطاع الطرق، اغتالوا حلمه وحلمنا بالطبع .... تاريخنا ...تاريخنا .... تاريخنا  

يأتى عرابى ليلعب دور الارادة السياسية أملا فى بعث نهضة مصرية خالصة، لكنه صحب معه لونًا جديدًا من العوار الشخصى، وهو التناسب المفقود بين الفعل والقدرة. حمل سيفه وركب حصانه وهجم لكن أين الخبرة؟ أين الدراية؟ أين الاحتراف السياسى، السياسة ليست أغنية تردد، وليست نشيدًا وطنيًا يتداول، وليست قصيدة عصماء تخرج من شفاه شاعر فحل كمحمود سامى البارودى، أو شاعر مسكون بالوطنية مثل عبد الله النديم، السياسة حسابات صارمة، السياسة حياة شعوب، مصير أجيال. وقتها كانت هناك حزمة من الحقائق تصرخ، وجوقة من المؤشرات تولول، ولكن وا أسفاه لا حياة فيمن تنادى :

1ــ حكومة معتقلة بواسطة قوتين عاتيتين انجلترا وفرنسا بسبب الديون المتلتلة التى جلبها افراط الخديوى اسماعيل، وكأنه كما يقول المثل ( هبله ومسكوها طبله )  

2ـ انجلترا عام  1882 غير انجلترا عام 1807 ـ أيام حملة فريزرـ  فى الأولى كانت مملكة، فى الثانية إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس، تملك أسطولا يعمل بلطجيًا فى كل بحار ومحيطات العالم ( يا خلق هووه )    

3ـ  دفعت انجلترا الخديوى عباس الأول لانشاء خط سكة حديد يربط بين السويس والقاهرة ـ ثانى خط سكة حديد فى العالم ـ  لم يكن ذلك  من أجل سواد عيون مصر وانما من أجل سواد عيون مصالحها فى الهند.

 4 ـ سارعت انجلترا بشراء ما تملكه مصر من أسهم شركة قناة السويس فور عرضها من جانب إسماعيل لمزيد من السيطرة على الشركة  

5 ـ فى سابقة الأولى من نوعها وفى استعراض لقوتها ووزنها الدولى استصدرت إنجلترا فرمانا من الباب العالى بعزل الخديوى اسماعيل ونفيه لايطاليا  

كما نرى لم تفلح أى من هذه الحقائق فى لفت نظرأحمد عرابى  وجماعته وشعرائه للعواصف والأنواء التى تهدد سفينة بلده، ولم تصله الرسالة التى مفادها أن إنجلترا على استعداد لفعل أى شيئ ـ بما فيها الكبائر ـ من أجل أن تبقى قناة السويس معبرها الملاكى للهند.

النتيجة، الاحتلال البريطانى، غلق باب النهضة بالضبة والمفتاح ...تاريخنا تاريخنا تاريخنا.

نحن لا نحاكم التاريخ، ولسنا من الجهل بحيث نسقط من حسابنا الظروف والملابسات والدوافع المحركة له، إلى جانب ارادته الخاصة أو نزقه إن صح القول، ولسنا من هواة اضاعة الوقت على المقاهى الثقافية، وأبطاله على رأسنا من فوق، لكن ليس لأحد مهما كان مركزه أن يمنعنا من البحث فى تاريخنا عن  الخطوط الحمراء التى اجتازها آباؤنا فدمرتنا، أو بطريقتنا فى التخفيف والتهوين من كوارثنا القومية "أثرت علينا بالسالب" صح كده ؟

نحن نعمل لحساب المستقبل لا لحساب الماضى، وهذا ما يجبرنا على الخروج من الزفة والامتناع عن الرقص على دفوف وصاجات بعض مؤرخينا، والخروج عنوة من سطوة مواويل وبكائيات شعرائنا وكتابنا الذين يسرفون فى امتداح زعمائنا ويلتمسون التبريرات لسقطاتهم. أعرف أننا شعب عانى من الاحتلال الأجنبى لأكثر من ألفى عام، وأعرف مدى شوقه لظهور بطل يكون على يده الخلاص، وأعرف أن استماتته فى الدفاع عن أبطاله ليست من أجلهم بقدر ما هى من أجل نفسه،  من أجل كينونته المستباحة بسبب نجومية موقعه الجغرافى وتاريخه، وأعرف أن بطله يتماهى فى لا وعيه مع  "الكاه"  التى ينتظرها من آلاف السنين لتهب الحياة للجسد المسجى فى تابوته انتظارًا لتلك اللحظة السماوية.

لكن المشكلة أن الأخطاء التى لا  تحصل على نصيبها الشرعى من الفحص والتدقيق والتحليل والتنويه والادانة يعاد استنساخها. انقلاب يوليو صورة منقحة لهوجة عرابى، تبريرات هزيمة 67 منقولة بالحرف الواحد من تبريرات احتلال انجلترا لمصر 1882 ..المؤامرة ..التربص.. الهزيمة واقعة واقعة أغلقنا خليج العقبة أمام الملاحة الاسرائيلية أم لم نغلقه..احتلال مصر واقع واقع قامت هوجة عرابى أم لم تقم.. ويفسرون.. الامبريالية العالمية ضاقت ذرعًا بعبد الناصر وكان لابد أن تتخلص منه، وجاءتها الفرصة..لاحظ لا يقولون أبدًا وأعطيناها الفرصة، وساق كاتب من الحائزين على مرتبة ( الكاتب الكبيرثم الأستاذ ) الدليل تلو الآخر على صحة نظريته، وهو نفس ما حدث من نحو مائة وخمسة وثمانين عامًا قدموا الأدلة الدامغة على التآمر، ولن نجادلهم فى هذا، سنوافقهم ويمكننا ( ننقط ) بكم سبب من عندنا، لكن سنسألهم سؤال بسيط جدًا، ما هو دور البطل ؟ منع المصيبة أم  التعجيل بها؟  سيحتلونا فى 1883 فى 1885 وقد يحالفنا الحظ ونفلت حتى 1900 أليس هذا مكسبًا بدرجة أو أخرى؟ لماذا أساهم أنا فى أن يحتلونا فى 1882، لماذا أمنحهم الأسباب للتعجيل بشرورهم؟ ما دواعى اللهفة؟ ونفس الشيئ يقال مثله وأكثر عن هزيمة 67 ...صدقى سليمان رئيس وزراء مصر ـ فى حينه ـ  قال للرئيس جمال عبد الناصر " ليتنا لا نغلق خليج العقبة يا سيادة الرئيس ونتجنب الحرب وبدلا من ذلك نبدأ فى تنفيذ الخطة الخمسية الثانية" لم يرد عليه ( راجع البحث عن الذات محمد أنور السادات ) المقام لا يتحمل الاسترسال، والنفس المشحونة بالألم تقاوم التوقف، ورئيس التحرير صفارته فى فمه.. صفحة لا كتاب يا عم فتحى.. لم نفسك ..حاضر هلم نفسي سنه سنتين عشرة مش فارقه بس جايه جايه، اقسم بالحى القيوم أنها جايه سواء منى أو من غيرى، لو أن التاريخ مقبرة  سيوجد يومًا من ينبشها، لو مقام ولى سيوجد يومًا من يصيح يا خلق هوه القبة ليس فيها شيخًا، لكن المشكلة أن التأخير يفقد الكشف قدرته على تصحيح المسار فى الوقت المناسب.

يقولون أن الجراد غير مؤهل للطيران، وما هو مؤهل له هو القفز فقط ـ  فى طفولتنا كنا نسميه النطاط ـ  كائن وديع جدًا نمسكه فى ايدنا لا يلدغ ولا يصرخ ولا يسب ويلعن ولا أى شيئ، لكن يقولون، لو توفرت له مجموعة من العوامل بالغة الندرة، وحدثت فى التوقيتات المرسومة ركب الريح وطار ـ بنظام الطيران الشراعى ـ بعد عملية تكاثر خرافية على رمال الصحراء الرقيقة المنداة التى يشتهيها بيض الاناث، وهجم ،على الحقول، عندئذ لا تجد الميديا الاعلامية من هو أجدر منه بتتبع سكناته وحركاته وغاراته ورصد انجازاته ويا خراب بيتك يا ناعسة.  

وهو بالضبط ما حدث مع الشعب المصرى، طوال قرون لا يملك آلية الطيران، وإذا بالظروف بالغة الندرة تتحقق ملتزمة بالتوقيتات المحددة، طار وحلق فى أجواز الفضاء.. در بالك:

ـ الحملة الفرنسية فى نهاية القرن الثامن عشر مدته بالقوة الناعمة والخشنة وسرحت القوتان فى التربة المصرية متأبطتا ذراعى  بعضهما ( أنججيه )

ـ بذر محمد على بذرة الموظف العام، سرحت فى التربة وما أن حل القرن العشرين حتى أصبح لدينا طائفة يطلق عليها الأفندية ببادج مميز، طربوش، ورابطة عنق، وأحيانًا منديل فى أعلى السترة، وساعات حذاء أبيض فى اسود، موظفون ومهنيون وكتبة محاماة وخلافه، وبالمناسبة كان أحلى طربوش الطربوش المصرى لا التركى ولا المغربى، طويل وراسخ، ويتعوج شمال له معنى ويتعوج يمين له معنى ويطربق من أعلاه له معنى .

ـ محمد سعيد أصدر اللائحة السعيدية فى نحو منتصف القرن التاسع عشر، أعطت للمصريين حق تملك الأراضى الزراعية، سرح القرار فى التربة، تشكلت طائفة جديدة هى طبقة الأعيان من أصل مصرى خالص، أرسلوا أبناءهم لاكمال تعليمهم بالخارج .  

ـ ما أن حل القرن العشرين حتى ظهر على الساحة شباب كما الورد، من عينة أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل ومصطفى كامل ومحمد فريد ومحمد محمود واسماعيلْ صدقى وسعد زغلول وغيرهم كثيرون

ـ لماذا فرنسا وبريطانيا ـ التى درسوا فيهما ـ بلاد حرة وبلدنا مستعمرة؟ والسؤال " ماحرمش "  تحرك مصطفى كامل وصحبه يطالبون باستقلال بلدهم، دعوتهم مست شغاف عقول وقلوب المطربشين والمعممين ولكنها عجزت عن اختراق طواقى البسطاء وهم الأغلبية الكاسحة.  

ـ اندلعت الحرب العالمية الأولى، أعلنت الحماية البريطانية، تحولت مصر لمعسكر للجنود من بريطانيين وهنود واستراليين، عاملوا الأهالى بصلف وقلة حياء، أمسكت سلطات الاحتلال الناس فى الشوارع كما الفراخ وأجبرتهم على العمل بنظام السخرة لخدمة الجيوش، ربط العمد الشباب بالحبال وأرسلوهم فى طوابير للمراكز بأمر سلطات الاحتلال بغرض تجنيدهم قسرًا فى جيوش الحلفاء ( تعدوا المليون) صادروا الحبوب والمواشى لتغذية جيوشهم، انخفض سعر قنطار القطن فانخفضت السيولة المتاحة، توقف الاستيراد، شحت البضائع فى الأسواق ووصلت أسعارها  السماء السابعة، وذاق الناس من جرائها الأمرين، شحنت نفوسهم بالغضب...   

ـ انتهت الحرب، قام نفر بمقابلة المندوب السامى البريطانى يطلبون بكياسة وأدب  جم التصريح لهم بالسفر إلى لندن لحضور مؤتمر لندن لعرض القضية المصرية والحصول على استقلال بلادهم، سألهم ما هى صفتكم ؟ رجعوا للشعب للحصول على الصفة ( يا له من تاريخ )

 هات ختمك يا حسنين، وانت كمان يا محمدين.. ليه عاد؟  انتشرت الحكاية، عرف العامة آن لهم بلدًا، وأنه مغتصب، وعرفوا سبب الغلاء والقهر، عرفوا ما هو الاستعمار الذى تتحدث عنه خلطة الطرابيش والعمم " بقى هى الحكايه كده ؟ " هرول الجميع للتوقيع، فى التوقيع حياة يا أولى الألباب، التوقيع هو الحل، دخلت القضية كل بيت، كل حجرة، كل زقاق، كل عشة، كل زريبه.. تعطيه التوكيل يعطيك الحرية، لم تكن عقولهم لتسع أكثر من ذلك، التوقيع، الختم، يساوى عيش حرية كرامة.

رُفض طلب السفر، صدر الأمر بالقبض على سعد وزملائه، الظروف البالغة الندرة تحققت فى التوقيتات المطلوبة، والشعب الذى لا يملك ميكانيكا الطيران ركب الريح وطار بنظام الطيران الشراعى، وخرج الناس للشوارع كأنهم الجراد المنتشر، واندلعت ثورة تسعتاشر، فاقت فى عنفوانها تصورات سعد ورفاقه، تجاوزت كل أحلام اليقظة التى خايلت أحمد لطفى السيد ومحمد حسين هيكل وعبد العزيز فهمى وكل النشطاء السياسيين. من قبل كانوا يؤذنون فى مالطه فلا مجيب، الآن مالطة خرجت عن بكرة أبيها لصلاة الفجر، من يصدق؟ كانت الشوارع خرساء فاذا بها تزأر، حسنين ومحمدين حملا الأفندية فوق أكتافهم وانطلقوا فى كل مكان من القطر المصرى.

ـ لكن كان هناك شيء آخر أكثر أهمية وهو أن جنين الأمة اكتمل نموه، وبدأ يتقلب فى أحشاء مصر، وأن لحظة الولادة قد اقتربت

يوجد شعب بلا عقل، لكن يستحيل أن توجد أمة بلا عقل، يوجد شعب ينجب بالهبل ولا يسأل نفسه أين سيسكنون ومن أين سيأكلون وكيف سيتعلمون وفى أى عمل سيعملون، ولكن لا توجد أمة تفعل ذلك أبدًا، يوجد شعب يدخل حروبًا فرضها على نفسه، لكن لا توجد أمة تفعل ذلك، يوجد شعب لا يعنيه إن حكمه من لا يملك سابقة أعمال لكن لا توجد أمة تفعل ذلك أبدًا أبدًا، يوجد شعب غير منتظم فى تجمعات حزبية أو مدنية أو نقابية لكن لا يمكن أن توجد أمة بهذه المواصفة أبدًا، يوجد شعب ينزل إلى الشوارع ويتجمع فى الميادين، وعندما لا يعرف الخطوة التالية يشغل  وقته بالغناء والرقص والقاء القصائد العصماء، حتى يحضر صاحب النصيب ويخطف ثورته، وبالفعل حضر الشيخ القرضاوى واستلم البضاعة وانفض السامر، لاتوجد أمة تفعل بنفسها ذلك أبدًا.

 الأمة المصرية الوليدة التى انتظمت فى الحزب الوطنى والوفد والاحرار الدستوريين،  ومجتمع  مدنى تضيؤه شخصيات من نوع الأميرة فاطمة، ويزخر بالشخصيات العامة من وزراء سابقين وحاليين وبورحوازية ناشئة من نوع عبد العزيز فهمى المحامى (ابن المحضر) الذى كتب الدستور بمفرده، وكان هو أساس دستور 1923 ، هذه الأمة خطف سياسيوها تصريح 28 فبرار 1922 من كيرزن رئيس وزراء بريطانيا، واستمرت فى الحكم حتى 23 يوليو 1952 ، أى ثلاثون سنة فقط، هذه الأمة بأسنانها اللبنية عندما ماطلت بريطانيا فى منحها الاستقلال لم تنتحر، ولم تتجمد، وإنما فكرت ودبرت وحولت طاقة ثورة تسعتاشر إلى نهضة كبرى، أنشأت جامعة، وبنكًا، وصناعات، وشركة طيران واستديو صوت وصورة ودستورًا وبرلماناً وأحزابًا وفكرًا وفنونًا وجسدت كل ذلك فى تمثال اكتتب الشعب فى اقامته اسمه تمثال نهضة مصر أو بشكل أدق نهضة أمة مصر، ومع ذلك ظل النضال من أجل الاستقلال مستمرًا ولم يتوقف لحظة واحدة، ثلاثون سنة فقط كأمة صنعت أم كلثوم وعبد الوهاب والعقاد وطه حسين، أقرضت عصر ما بعد يوليو 52 مالا حصر له من المهندسين والأطباء والمديرين، وما لا  حصر له من الأموال، مولت وحدة فاشلة مع سوريا، وحربًا فى اليمن، وخمسة مليون استرلينى تدفع سنويًا للأردن هدية من الأخت الكبرى مصر .......... تاريخنا تاريخنا تاريخنا

جاء جمال عبد الناصر مسح الأحزاب بأستيكه، سجن الرموز، وأهال التراب فوق رأس ما تملك مصر من شخصيات عامة، لم يفعل ذلك نكاية ببلده وانما من أجل التعجيل بالنهضة، وتخليص القرار من أيدى الأحزاب المتناحرة المتناقضة المترددة المهزوزة الفاسدة. الحق يقال كان زعيمًا وطنيًا وصادقًا وعفًا خطف القلوب والأبصار ومن جديد اكتملت الأركان الثلاث للنهضة

البكباشي جمال حسين عبد الناصر : الارادة السياسية

 الموارد: مصر بأراضيها الزراعية  وقناة السويس والسياحة

المعرفة التقنية : مصرية خالصة  مهندسون مصريون وخبراء مصريون علماء مصريون مبدعون مصريون فى كل المجالات وكلها من انتاج الفترة الدستورية المشار اليها سابقًا

بدأ بالخطة الخمسية الأولى ، أقيمت خلالها مصانع كثيرة، تشكل فى جملتها قاعدة صناعية يمكن أن يبنى فوقها أدوار أخرى، وكله بتمويل مصرى صرف، لا قروض من هنا أو هناك، ولا بنك دولى، ولا صندوق نقد، هى تحويشة العمر فك السرة وصرف .

لكن الارادة السياسسية الفردية أضافت عوارًا ثالثا وهو الاستبداد بالرأى واحتكار صنع القرار، فكانت هزيمة 67 التى اسقطت النهضة بقرار منها، وجعلت الخطة الخمسية الأولى ليست أولى فقط بل وأخيرة أيضًا ...تاريخنا تاريخنا تاريخنا.

تولى السادات الحكم، وكان شاهدًا على عصرين، عصر ما قبل يوليو 52 وعصر ما بعد يوليو 52 وتوزع عمره بينهما أربعة وثلاثون عاما قبل الثورة وتسعة وعشرون بعدها، واشتبك مع أحداثهما الكبرى ـ من وجهة نظرى التى لم أصادف من اعتد بها على الأقل حتى تاريخه ـ  أن هذا الرجل قارن بين العصرين عصر ما قبل يوليو 52 عصر "الأمة" وما بعد يوليو 52 عصر "الشعب" فرجح خيار عصر ما قبل يوليو 52 ، أصدر عدة قرارات بالغة الخطورة، بهدف فتح الطريق أمام نموذج الأمة، السماح بتشكيل الأحزاب، الغاء الحراسات، انهاء حالة الطوارئ، عودة المواطن للوقوف أمام قاضيه الطبيعى، انفتاح اقتصادى، استخدام التوازنات السياسية بدلا من السجون والتعذيب فى مقاومة المعارضة ( استخدم الاخوان ضد اليساريين والناصريين ) ـ

 ولكنه أضاف خللا رابعًا للارادة السياسية الفردية ( يعيش مع نفسه ويتصور أن ما يراه بديهيًا يراه الآخرون كذلك ) اتخذ قرارات تناقض ما اعتاد عليه الناس وما رسخ فى عقولهم خلال العقدين السابقين، فعل ذلك بدون تمهيد أو تشاور أو حتى موافقة أو حماس ممن سيقومون بتنفيذها، وبدون حملات اعلامية بوزن هذه القرارات، وأذكر أنه أعلن انهاء حالة الطوارئ فى خطاب له فى طلبة جامعة الاسكندرية، وكان يظن حسب ما أعتقد أنه يزف لهم خبرًا سعيدًا، فقام أحد الطلبة معترضًا من خلال قوله أن الحرية تبلبل أفكارنا، وهو ما يعنى أن الرجل كان فى واد وشعبه فى واد آخر وخسر حياته جنبًا لجمب مع شعبيته ..... ناريخنا تاريخنا تاريخنا  

كان من المفترض أن يرعى مبارك بذور الأمة التى غرسها السادات ودفع حياته ثمنًا لها، لكنه، فضل خيار الشعب لأن حكم الشعب أسهل فى تصوره من حكم الأمة وأحفظ لحياته ولكرسيه ..ووضع الخطوط العريضة لسياسته .الأحزاب لا يسمح لها بالنمو وأطلق عليها مساعدوه وصف ورقية الذى مازال يطاردها حتى تاريخه، القوانين الاستثنائية تعود، لا تعطى أى فرصة للشارع السياسي ليكون له كلمة فى اتخاذ القرار، أو فى عزل أى وزير أو تنصيبه، الانفتاح يزدرى شكلا لكسر سم اليساريين ويستمر ويزيد مضمونًا، السلام مع اسرائيل يستمر والعلاقات مع رؤساء اسرائيل تكون سمن على عسل لكن تحت الطاولة، فوق الطاولة لا تبادل للزيارات مع رئيس أو وزراء اسرائيليين وذلك لكسر سم المزايدين، العلاقة مع الاخوان والاصوليين  " حبه فوق وحبه تحت " حسب مقتضى الحال، لا تهاون مع الفاسد إن ظهر، أما الفاسد الذى يعرف شغله ويتقنه فعينى عليه بارده. بعد أن طابت له الأيام، واطمأن للزمان، وتوالى العقد بعد العقد، وتيقن من صلابة  نموذج الشعب، أعلنها على الملأ " أنا أو الفوضى"  والفوضى متج منتجات الشعب لا الأمة ..حتى أن مصطلح شعبوى خرج الآن من معامل الغرب السياسية نعبيرًا عن درجة من درجات الانفلات التى يمارسها اليمين حاليًا.... تاريخنا تاريخنا تاريخنا  

هذه هى رواية النهضة المصرية عبر قرنين من الزمان، وكما نرى مازالت النهاية مفتوحة، وهو شيئ وإن كان مرحبًا به دراميًا، إلا أنه مكروه سياسيا واقتصاديًا واجتماعيًا لذلك لابد من نهاية.

ناس تقول لديكم النهضة الماليزية، وآخرون يقولون الصينية أحسن ، وغيرهم لا أحلى من اليابانية،  وأنا أقول نموذجنا أمام أعيننا ..عصر ما قبل يوليو 52، الحقبة الدستورية الكزموبوليتانية الليبرالية اليسارية اليمينية الدينية اللادينية العلمانية بنجاحاتها واخفاقاتها. الغريب أن هذا الموقف الصعب عاشته أوربا فى مشكلتها مع العصور الوسطى، ولم يكن أمامها من حل للخلاص من ظلامها الدامس إلا بفتح ثغرة فى جدارها السميك، والنفاذ منها إلى العصر السابق عليها .. عصر تلاحم الحضارتين اليونانية والرومانية، وما سادهما من تسامح ثقافى..من اليونان الفلسفة والرياضيات، ومن الرومان التنظيم والادارة والقانون، وتشكل منهما العصر الكلاسيكى الذى لا يضاهيه عصر من حيث جماله وعبقريته، مرادفه عندنا "الزمن الجميل"  

النهضة ليست قرار حاكم أو قرار شعب، النهضة قرار أمة وعزم أمة وكاريزما أمة..... أين الأمة المصرية يا رجال مصر الأوفياء؟ اعملوا حاجه أى حاجه

تعليقات