مارثون دعم الدولة

 

مارثون دعم الدولة ........................نشر بصحيفة القاهرة تصدرها وزارة الثقافة

               صباح الخير يا ثوابته وطيبون يا ثوابته

                                                                                                          مارثون دعم الدولة                           (نشر فى صحيفة القاهرة )

 أعرف  أنى أدخل للقارئ  من سلم الخدم، وساعات على المواسير، وبلبوص، يعنى  لا أنا البروفيسير  فلان ولا الكاتب الكبير علان، وأعرف أيضًا  أن القارئ لا يحب هذه الطريقة، ولا يسمح للأحاد من الناس باقتحام خلوته، فهو قارئ نزيه، ومستغنى، ولديه قناعاته الملَّاكى، وتقليدى جدًا، وأصولى جدًا، حتى فى غير الأمور الدينية، أصولى فى السياسة، أصولى فى الفكر، أصولى فى الملبس فى المنهج، لا تذهب له من الباب للطاق وتقول ما تريد، لابد من المرور أولا على المحطات الرئيسية، يعنى لازمًا من المرور على ثوابته، وصباح الخير يا ثوابته، وطيبون يا ثوابته، وإياك ومحاولة المساس يثوابته، أو حتى لمسها، العقوبة الموت، الرئيس السادات،  محمد فرج فوده، وإن خفف الحكم (دبشة) تخنفك.. الامام محمد عبده، قاسم أمين، د.طه حسين، الشيخ مصطفى عبد الرازق، وفى أيامنا نصر أبو زيد واسلام بحيرى، وأقل العقوبات وأقساها وأخطرها على المجتمع والناس هى التجاهل ( الطناش )  وكأنه لا وجود لك، كما هو الحال معى، ومع أمثالى من المتشبثين بالأمل، والملتحفين بالصبر على المكاره،  ولذلك سأبدأ حديثى ـ بعد الصلاة على الزين ـ  بالاقرار بأن أحمد هو الحاج أحمد، لكنى لن أقر أبدًا حتى لو موتونى بأن الشعب هو الأمة.. لا ..الفرق شاسع.

 ـ الشعب ناس يجمعهم غريزة حب البقاء، شب حريق اندفع كل منهم لاطفائه، غزو أجنبى هب كل منهم للدفاع عن  زوجته وأولاده، زلزال، فيضان "كله يخلى باله من لغاليغه" .. ردود أفعال فردية انعكاسية، تعتمد على الطبيعة الشخصية لكل فرد، وحتى لو قام الجميع بنفس الفعل، فى نفس الوقت، أو لو ساعد بعضهم البعض فلن يسقط هذا عن فعلهم  صفته الفردية.

ـ الأمة  شيئ آخر، منتج صناعى فاخر، تشم فيه رائحة العرق الجماعى، والفكر الجماعى والابداع الجماعى والهم الجماعى والفرْح الجماعى .. ناس ؟ نعم، يجمعهم غريزة حب البقاء؟ نعم، لكن هناك ما هو أكثر وأخطر، وهو وعيهم بالزمان والمكان أو الزمكان على حد توصيف الفيزيائيين..

ـ الوعى بالزمان يعنى تمحور الشعب حول تاريخه، طول الوقت يأخذ ويعطى معه، سنأمم قناة السويس.. لديك ما تقوله أيها السيد الكبير؟ محمد على أسقط القوى الكبرى من حسابه وكان ما كان..

سنغلق خليج العقبة وهو ما يعنى دخول حرب مع اسرائيل هل لديك ما تقوله أيها السيد الكبير؟ دخلتم حرب 48 وانتم غير مستعدين وتعرفون ما حدث، ودخلتم حرب 56 وطائراتكم معروضة على الأرض بدون دشم وتعرفون ما حدث. شكرًا، تأخذ بكلامه أو لا تأخذ هذه مسألة أخرى، المهم حضوره الليله، وبالذات قبل كتب الكتاب.

أدهشنى أن فعلها ونستون تشرشل، فى عز الكرب. 20000 جندى بريطانى محاصرين فى دنكرك ـ الميناء الفرنسي ـ قوات المحور تتأهب للهجوم على دنكرك، مصيرهم  موزع بين القتل والأسر ..عليه أن يقرر، هل تقوم البحرية بانقاذهم رغم الخسائر الفادحة التى ستكون فى انتظارها، أم يضحى بالجنود المحاصرين؟ حسب مذكراته "ولأنه عبر التاريخ لم تتخل البحرية أبدًا عن مؤازرة القوات البرية، قررت ألا أكسر هذه القاعدة مهما تكن الخسائر فى القوات البحرية

ـ الوعى بالمكان يعنى معرفة قيمته واستحقاقاته، ومعرفة الجميع باستعدادك لقطع رجل كل من يقترب من ترابه، وهذا ما يسمى بالأمن القومى ..إنتُهك فى 1956 و 1967 وفى 28 يناير 2011 على يد حماس وحزب الله وكأننا طول حياتنا نحرث فى البحر، وكأن هذه الأرض التى انتهكوا حرمتها  والسجون التى اقتحموها ليست أرض مصر التى شاركتهم فى السراء والضراء، حتى الملايين من تبرعات المصريين ( من لحم الحى ) التى جمعها الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وحملها على كتفه وعبر بها الحدود لتوصيلها لحماس رغم حاجة بلده لكل مليم منها، نسوها ..عذرًا سادتى، أنا لست من حارتكم، أنا من حارة على الهامش، آفتها التذكر لا النسيان

ـ الوعى بالزمان والمكان، وتفاعلهما هو ما  يحول الشعب إلى أمة، ويظهر  للوجود شيئا إسمه الشأن العام، ويخصص له مكانًا يتقدم المأكل والملبس والمسكن­­­­­­­­­­­­­­­­­­­­، ومن سويداء وعى الأمة تنبثق الأهداف القومية أو الاستراتيجية، ومن هنا عرفت الأمم الجيوش والشرطة والضرائب والخزانة والميزانية والتخطيط والتنظيم والمراجعة والفرز والتجنيب، وخصصت إدارات لحساب امكانياتها وتقدير امكانيات غيرها فى الاقليم وفى العالم، وتزودها بمراكز استشعار عن بعد لرصد الخطر قبل وقوعه، والتحسب له عند تغير حد من حدود معادلة القوة أو احتمال تغيره،  الأمة وجوه الناس فيها  متقابلة وليست متجاورة، يجيدون الحديث والاستماع لبعضهم البعض بدون ميكرفونات وساعات بالهمس واللمس والآهات أو بدونها، القدرة على استجلاء ما بين السطور، وفى ظروف خاصة جدًا يمكنها أن تفهم وتوافق على ما لم يرد فى أى سطور حيث لا تعلنه الحكومات لأسباب أخلاقية، فالحكومات البريطانية منذ القرن الثامن عشر وحتى منتصف القرن العشرين حكومات استعمارية، هل الأمة البريطانية لم تكن استعمارية؟ الحكومة الاسرائيلية الحالية حكومة عدوانية، هل الأمة الاسرائيلية التى أتت بها وتدعمها ليست عدوانية؟ أنجيلا ميركيل المستشارة الألمانية فتحت أبواب ألمانيا على مصراعيها للمهاجرين السوريين، شنت عليها المعارضة واليمين المتطرف هجومًا شرسًا،  توقع الجميع سقوطها فى الانتخابات، نجحت.. لماذا؟ لأن الشعب فهم واقتنع بما لم تصرح به أنجيلا أبدًا، وهو أن قبولها آلاف المهاجرين السوريين ليس من باب الشفقة أو الانسانية أو البلاهة السياسية، وإنما مسألة حسابات. عوامل الانتاج ثلاثة، ويقال أربعة، الأرض، رأس المال، العمل، الادارة.. اتفقنا ؟ كل هذه العوامل فى ألمانيا متكافئة ومتناغمة وزيادتها أو خفضها فى متناول اليد، فيما عدا عنصر العمل، به نقص شديد عن مستوى العوامل الأخرى، أو بشكل أدق يمكن زيادة العوامل الأخرى لو أمكن توفير المزيد من العمالة، فى السابق اعتمدوا على الأتراك الفقراء المستعدين للعمل عند جارتهم الفالحة ألمانيا، الآن الأتراك أصبحوا أغنياء وأقوياء فى بلدهم وفى ألمانيا نفسها وأصبح ثمنهم فى السما، أنجيلا المرأة الهادئة المدبرة العاشقة لألمانيا لحد الهوس، وجدت أمامها آلافًا بل ملايين من السوريين، شباب، صحة، علم، وجاهز للشغل الصبح دون أن تتحمل يورو واحد فى  اعداده دون أن تتكلف  ينس واحد ثمنًا لعلبة لبن أطفال تقدمها له ، فكله تم على حساب العزيزة سوريا.. تتركه؟ حاجة ببلاش كده تسيبها يا أمة لا اله الا الله؟ .. الله يرحمك يا جدتى كانت تقول "يا قلبى يا  كتاكت يا ما انت شايف وساكت" كل العبارة مفهومة فيما عدا يا كتاكت هذه.. محيرانى .. لفيت عليها فى كل قواميس العالم لم أجد لها أثر.. نهايته، قدرات الشعب رقم ثابت فى كل الأوقات، الأمة قدراتها رقم متحرك صاعد فى الغالب، الأمة لها فنونها ومقولاتها، لها شاعرها ومطربها، إن قالوا أو غنوا، فى نفس واحد تقول الله، وساعات عظمه على عظمه على عظمه.

لن يخجلنى القول أننا كنا شعبًا  لأكثر من عشرين قرنًا، يأتى الأجنبى على رأس عدد من الجنود ليهزموا أجنبيًا آخر ويحكموننا ـ غنيمة حرب ـ إلى أن يأتى أجنبى ثالث وهكذا دواليك.لن أخجل من القول أن مشاركتنا السياسية كانت تتركز فى دعائنا  "اللهم ولى الأصلح" وأثناء معاركهم مع بعضهم للحصول علينا "يا نجى الألطاف نجنا مما نخاف" لا لن أخجل ولن أسكت لا أنا ولا صحيفة القاهرة فالنضال ومواجهة الحقيقة بالنسبة لكلينا كاتب وصحيفة، مقدر، ومكتوب، نقول  APPLICATION . أدقق فى ذلك لأنه فى ستينيات القرن الماضى رفع أحمد بهاء الدين شعار " اعرف عدوك " هلل له المثقفون وكبروا وتحركت الأهرام وهيكل والذى منه وألقت عدة دفعات من مدفعية الشيفونية القومية الرابضة فوق سطح مبنى الأهرام فى الأيام الخوالى ..هرع الجميع إلى الكتب والمراجع يبقرون بطونها وعندهم حق، ما هو متى عرفت عدوك عرفت كيف تقتنصه، وعرفنا هرتزل وجولدمان وروتشيلد وماذا قالت التوراة وماذا قال القرآن الكريم ألخ  ومع ذلك احتلت اسرائيل سيناء والجولان والضفة الغربية..بنظام الجملة.. لماذا؟ لأنه قبل أن تعرف عدوك كان عليك أن تعرف نفسك أولا، لأن معرفتك لنفسك هى التى ستجعل من معرفتك لعدوك معرفة براجماتية انتقائية تصلح لميادين القتال ومضمارات السباق وتابيهات المصراعة وليست معرفة اكاديمية، مكانها قاعات الدرس والمباهاة فى الندوات الثقافية

غرست بذور الأمة فى التربة المصرية مع الحملة الفرنسية عندما طلب نابليون تشكيل الديوان  (ليساعده فى الحكم ) كانت حملة استثنائية خارجة من لدن ثورة استثنائية، وقائدًا استثنائيًا، وظرف تاريخى استثنائي لا مجال الآن للخوض فيه، نبه المصريين إلى أن لهم بلدًا له استحقاقات، لم يمر غير سنة أو نحوها وكما يقول المثل (أول ما شطح بطح ) هبوا  لمقاومة الاحتلال الفرنسي ( الجرس الذى نبههم ) ثم أصبحوا رقمًا فى ادارة شئون بلدهم، ولعبوا دورًا محسوسًا فى تعيين الوالى الجديد محمد على، ورغم انجازاته ودوره كرافعة عملاقة ألقت بمصر فى تجمع الدول الحديثة، إلا أنه للأسف أعاد نفس صيغة الحكم كما كانت فى القرون السابقة (حاكم،جيش يحميه، شعب لا دور له ) وتوالت أحداث كثيرة مواتية وغير مواتية، انتهت بالاحتلال البريطانى، إلا أن بذور الأمة لم تمت لأنها غرست فى أرض طيبة، وما أن تعهدها مثقفو الشعب ونشطاؤه السياسيين بالرعاية حتى تفجرت ثورة 1919 بهدف محدد ووحيد.. التحرر من نير الاحتلال، وبدأ صراع غير متكافئ بين الثوار وبين السياسة الاحترافية لأكبر الدول الاستعمارية حنكة ودربة وقسوة وهى انجلترا،  وكان من الممكن أمام المراوغات  والاخفاقات التى تمخضت عنها المفاوضات أن تتبدد طاقة الثورة، وتصبح هوجة تلحق بهوجة عرابى، لولا وطنية ووعى النخب الثقافية والسياسية التى حافظت عليها وسارعت  بضخ أهداف جديدة فى شرايينها، فتحولت لنهضة كبرى، حولت الشعب المصرى من شعب إلى أمة تستحق ( الأيزو )  أبهرت الدنيا فى فترة الحكم الدستورى  1923 ـ 1952 ..معظم الأحزاب تشكلت فى الشارع وعلى المقاهى والمصاطب وأصبحت قادرة على انتاج النخب والشخصيات العامة وحملها على أكتافها  ووضعها على كرسي الحكم، ولها نفس القدرة على نزعها من مكانها واسقاطها، أصبح هناك مجتمع مدنى "يحلف بسماها وبترابها / ويحلف بدروبها وأبوابها " فعلا لا قولا أو انشادًا، أنشأ جامعة، أنشأ بنكًا بفلوسه، واتحاد للصناعات، وشركة طيران واستوديو للصوت والصورة ومصانع قطن وزيوت  وصابون وزجاج وورق وأسمنت وكاوتش وبطاريات ويوه يوه يوه أمَلَه، وبلغت هذه الأمة من رهافة الحس حدًا جعلها تأخذ قروية من يدها وتنصبها كوكبًا للشرق، ومن الحصافة والجرأة أن تأخذ بيد كفيف وتجعله وزيرًا للرؤية ( التعليم )، وتسمع لجامعى لعب به الخيال فتصور أنه بقرش واحد يدفعه كل مصري يحول مصر لبلد صناعى ( مشروع القرش / أحمد حسين )، وبلغت من الرقى كأمة حدًا جعلها تتبرع لانشاء تمثال أسمته نهضة مصر، مازال ـ يحرسه ربنا ـ  قابعًا عند المدخل الغربى لكبرى عباس يحكى الحكاية لعابرى الجسر، حكاية هذا الشعب الأعجوبة، الذى يقع ويقوم صاغ سليم، وأنا شخصيًا وعلى عهدتى أتصوره فى كبواته عملاقًا  ملقى إلى جوار سور حديقة أو مدرسة أو ملجأ للأيتام جائعًا متهالكًا رث الثياب أشعث الزقن تظنه قاب قوسين أو أدنى من الموت، وما أن يحصل على كوب لبن ( قرار واحد صحيح ) حتى ينتفض قائمًا يرج الدنيا.... المراجع.... هزيمة 67 ونصر 73 .

كنا أمة رفعت انقلاب 23 يوليو 1952 إلى مرتبة الثورة ومنحته الاسم " ثورة يوليو"  وأعطت لشرعيتها كارت بلانش، وسلمت قادتها خريطة طريق.

تغير الحال، أصيب الشارع السياسي بالكساح، تلاه تراجع ثقافى أنتج فراغًا، تمدد الأصوليون على حسابه، وتحولنا لشعب، ينهش الفساد والعشوائية والأنانية الفردية الغبية لحمه، والسلوكيات الانعكاسية تركت لتقتل أحلامه وتوقف نموه، لكن صورتنا كأمة ظلت تتربع على عرش قلوبنا، والحنين لاستعادتها ظل حلم حياتنا جميعًا، نفس الحلم الذى عبر عن نفسه  بثورة 25 يناير، وما رأيناه فى ميدان التحرير لم يكن شيئًا آخر غير أمة افتراضية.. ذوبان فى الآخر.. انكار غير مسبوق للذات، اختفاء كل الفوارق المادية والدينية. طبعة حية من الأصل القابع فى وجداننا كمصريين، فجأة ظهر نذير الشر ـ الشيخ القرضاوى ـ فى ميدان التحرير، فاذا الدنيا كما نعرفها، وإذا الأحباب كل فى طريق، وبدأت خيوط المؤامرة تتضح، سيطرت الجماعة الارهابية المتريصة والجاهزة دومًا لتقويض أحلامنا،  واكارثتاه... وصلت للحكم، لكن بذور الأمة التى تكافح من أجل البقاء لعبت دورًا فاعلا فى الثلاثين من يونيو لاسقاطها وطردها خارج المشهد السياسي.

أهى مصادفة أن يخاطبنا السيسي بقوله "يا مصريين" دون استخدامه عبارات كأسلافه من نوع "أيها المواطنون " أو " أيها الاخوة والأخوات " فيقول بشكل مباشر مفعم بالحميمية عبارات من قبيل "خللوا بالكم يا مصريين، وحافظوا على بلدكم يا مصريين "  أقول أهى مصادفة  أم اسقاط على ما يختزنه ـ مثلنا ـ فى عقله الباطن من صور للأمة المصرية التى كانت أيام الزمن الجميل؟ أهى مصادفة أم أنه ـ مثلنا ـ يتحرق شوقًا لبعثها من جديد؟ أهى مصادفة أم أنه ـ مثلنا ـ يحلم بها ويناديها باسمها وكأنه فى حلم من أحلام اليقظة... مستمتعًا ـ مثلنا ـ بوقعه وجرسه وشجوه؟

إذا دعونى أحلم بأن يكون الثانى من يونيو 1918 يوم حلف يمين المرحلة الثانية لرئاسة السيسي، هو خط البداية لماراثون دعم الأمة المصرية، وانتهاء مرحلة دعم الدولة، فليس هناك ما هو أخطر على الدولة من بقائنا شعب وليس أمة.

أما كيف نتحول من شعب إلى أمة؟ ....لما تسألونى هقول.

 

تعليقات