حاضر الثقافة 7

                              

حاضر الثقافة فى مصر7

شرقنا وغربنا، قبِّلنا وبحرنا، وتهنا ساعات، وبحثنا عن النجم القطبى لم نر له أثرا لكن العتب ليس على النظر وإنما على غيوم كثيفة حجبت البريق المأمول.. رأيي الشخصى ألا نأسف أو نتأسي على الغرق فى هذا التيه، وعلى ضياع الوقت والجهد، فمن وجهة نظرى " أن البلد الفقير الذى لا يملك وفرة فى الموارد مشكلته اقتصادية، أما البلد الفقير الذى يتميز بوفرة موارده فمشكلته ثقافية " ونحن نمتلك مواردا ليس هناك ما يضاهيها تنوعا وندرة وقيمة وغزارة.

فى بلدنا الفقبر هذا .. الجغرافيا بتكسب (قناة السويس) التاريخ بيكسب ( آثار جدودنا )  أرض زراعية بالغة الخصوبة، مهندسون وفنيون وعمال يسدون عين الشمس،  بترول، غاز، ذهب، رخام، فوسفات، أراض صحراوية صامتة تنتظر من يُنطقها، شواطئ معجبانية غرقت فى نرجسيتها آلاف السنين ..انتظارا لإبن الحلال القادر على تثمينها، بحر أحمر قيعانه غارقة فى تبرجها إشى أحمر وأشى أصفر وإشي فوشيه وإشي بمبى سبحان الخالق العظيم، شَعب فرعونى المنبت يدهن الهوا دوكو ويصنع من الفسيخ شربات، موفدوه يحولون لبلدهم سنويا مليارات الدولارات، تاريخ مليئ لحبة عينه بالتجارب والعبر، عاوز تضحك تلاقى، عاوز تبكى تلاقى، عاوز تخبط دماعك فى الحائط تلاقى، دروس فى السياسة، دروس فى الميتافيزيقا، دروس فى الاقتصاد، دروس فى الديمقراطية، دروس فى الحكمة، دروس فى الفقد، كله كله كله موجود ومرطرط على النواصى وفى ميادين وشوارع وأزقة تاريخنا النائم على رفوف المكتبات ..وفقراء

ليه ؟

لازم نسأل، ومانمش الليل غير لما نعرف

هى الثقافة

الثقافة ليست فقط شعرا وموسيقى ولوحات رسم تشكيلى وتماثبل، الثقافة ليست قراءة فى التراث وغيبوبة والله حى سعد أهو جاى، لأ، الثقافة فن  إدارة الحياة، فن ادارة الحاضر، فن ادارة المستقبل، فن استغلال المعطيات وعصرها حتى تعطى كل ما فى أغوارها، خريطة طريق لاقتناص المجد. فى غياهب بحارها يوجد صندوقنا الأسود..بعثورنا عليه نعرف أسباب سقوطنا المتتالى، ليه أيام محمد على وقعوا علينا عقوبات وحجمونا؟ ليه بعد محمد على توقفت النهضة، ليه انهزمنا فى ست ساعات أيام عبد الناصر (لم نهزم فكك جيشنا العظيم بفعل فاعل الأمر بالانسحاب كان جاهزا مسبقا) ، وليه قدرنا نطربق خط بارليف على دماغ اصحابه  بخرطوم ميه أيام السادات، ليه كل اما نعلا ونعلا ونعلا نرجع وننزننزل ننزل ..كان عبد الناصر فى الخمسينيات من القرن الماضى وفى مجموعة عدم الانحياز فتى الشرق المدلل، نجما ساطعا فى سماء العالم الأول والثانى وليس الثالث فقط، كان  أصغرالزعماء  سنا وأكثرهم حضورا وتألقا ونشاطا وحيوية وجاذبية، رغم أنه كان يمثل بلدا صغيرا تعداده 18 مليون بينما  شو اين لاى رئيس وزراء الصين يمثل مليارا، وجواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند مثله، وأحمد سوكارنو يمثل مئات من الملايين، ...ثم ... ليه خطة خمسية واحدة وليس اثنتين أو ثلاثة أو عشرة؟ ليه القاهر والظافر لم ينطلقا عندما احتجنا لهما؟ ليه انقطع خلفهما ولم ينجبا  جيل ثان وثالث كما حدث فى اسرائيل وإيران وكوريا وغيرهم؟ وصدق أو لا تصدق فى خمسينيات القرن الماضى كنا من أولى الدول التى تنبهت إلى أن الصاروخ هو سلاح المستقبل، وانتهزت فرصة وجود خبراء صواريخ ألمان خاليين شغل بعد الحرب العالمية الثانية وفى الحال تعاقدنا معهم للعمل فى مصنع خصص  لسلاح المستقبل هذا ..كله راح وانقضى واللى بينا ...أم نقول راح راح خد قلبى وراح..أترك لك اختيار الأبلغ، أين الطائرة المشتركة بيننا وبين الهند وكان  اسمها هندستان؟ أنشأنا من أجلها مصنعين أحدهما اختصاصى مواتير وسميناه مصنع 35، والآخر لبقية المقاتلة وسميناه مصنع 36 ، والله ما باكذب، وصنعناها وطارت، ورأيتها بعينى تحلق فى سماء حلوان وفوق بيتنا، والمصانع لازلت موجودة وحية روحوا شفوها بنفسكم، طبعا لا تنتج طائرات تنتج أشياء أخرى ربما حفاضات أطفال لا أعرف لكنها موجودة وشاهد عيان على ...أكملت الهند المشروع وطورت البنت هندستان وها هى تحلق الآن فى سماء الهند، وعاديك لو اقترب أحد من السماء الاقليمية لبلدها تاكله باسنانها أكل، ليه مفاعلنا النووى فى انشاص سلم نمره بدر بدري ومفاعل ديمونه فى النقب عايش وعينه الحمراء بتبص يمين وشمال ولا تعرف النوم؟ ليه اسرائيل تحتل سيناء مرتين ومنحتلش حيفا ولا مرة ؟ ليه تضرينا فى أعوام  54 و55 و 56 و67 ولا رصاصة نوجهها نحوها غير لما عسكر جنودها أمام أعيننا على شط القناة؟ ليه ناس من حماس وحزب الله يقتحموا حدودنا ويهددوا دولتنا ويرجعوا بيوتهم فى نفس اليوم ومعاهم سيارات شرطتنا ولا يكون رد فعلنا غير استر يا اللى بتستر؟ 

أى  وقت وأى جهد وأى فكر وأى حشد وأى جرنال وأى مجلة وأى كتاب وأى مقال وأى ندوة وأى توك شو وأى محاضرة وأى حديث لعابر سبيل أو حكمة تخرج من بين شفاه مجنون وتصب فى المسألة الثقافية، كله كله، خطوات على طريق حل اللغز المصرى أو المسألة المصرية..أيوه "المسألة المصرية" مصطلح قد تظنون أنه من اختراعى، أبدا، وربما تظنون أن عمره سنة أو عشرة أبدا، عمره مائتين سنة إلا عشرين، وأطلقه سياسي بريطانى من اللى همه إسمه بالمرستون وزير خارجية بريطانيا فى 1840 .. تنبه لخطورة الوحش القادم من الشرق، فجمع الدول الأوربية بما فيهم روسيا للإحاطة به واصطياده.

 من يصدقنى؟ من يؤيدنى؟

من يضع يده فى يدى؟

من يغوص معى  بحثا عن الملعون الصندوق الأسود

 فيه هو فقط سر قيامنا وقعودنا تحليقنا وسقوطنا   

 هل نحن أبناء شرعيون لعصر النهضة؟ تلك التى بدأت ـ عندنا ـ فى السنتين الأخيرتين من القرن الثامن عشر بثورة كونية فرنسية ألقت برحالها ـ أول ما ألقت ـ على شواطئنا فى صورة حملة عسكرية (إستثنائية) هى الأغرب والأعجب عبر التاريخ، لبناتها، الجندى والعالم، المدفع والمطبعة والمسطرة الحرف تى، ومعامل للكيمياء والفيزياء والفلك، ومجمع علمى حملته السفن من موطنه باريس إلى القاهرة ..حملة عسكرية عدوها لم يكن المصريين وإنما العثمانيون المغتصبون لبلد صغير، خصوصيته اقتحمت عصر التنوير، وحصلت على ما تستحق من إشادة وتنويه فى صورة عبارة مقتضبة فى الانسكلوبيديا الأوربية  "مصر بلد كانت فى العصور الغابرة تستحق الاعجاب والآن بلد يستحق الدراسة" ولأن النهضة الأوربية ومن بعدها التنوير، ثم الحداثة، منتجات فلسفية / فكرية بامتياز، كان لابد أن تحظى الحضارة الفرعونية والعزيزة مصر بالتبعية بحضور مدوٍ باعتبارها أم الحضارتين اليونانية والرومانية ..لأجل هذا دخل قهر العثمانيين لمصر الدائرة الأوسع لفكر إنسانى مبهر، مثل ذروة ما وصل إليه فرسان عصر التنوير، حيث كانت الثورة الفرنسية هى الصيغة التنفيذية أو التطبيقية لأفكارهم.

 ونعيد السؤال هل نحن أبناء  شرعيون  لهذا العصر؟ وإذا كنا كذلك أين إرثنا؟   موجود؟ ثمناه؟ بددناه؟ قضية كبيرة كنت أتمنى تجنبها، لكن كيف وهدفنا هو العثور على الصندوق الأسود؟ فى أى البحار نغوص؟ وفى أى الوهاد نفتش؟

 بعض دارسي التاريخ فى بلدنا يأبون أن تكون لمصر مثل هذه المنزلة الكونية، لم تزد مصر فى نظرهم عن لقمة طرية جاء نابليون لالتهامها بدافع من المنافسة الاستعمارية التى أشعلتها بريطانيا آنذاك” ويقولون "مشروع الحملة الفرنسية على مصر مشروع استعمارى يعتمد أسلوب الغزو العسكرى واحتلال مصر بالقوة وانتزاعها من  الدولة العثمانية " من كتاب " الحداثة والإمبريالية" للأستاذ الدكتور أحمد زكريا الشلق الصادر عام 2006 .. كما نرى  أسقطوا من حسابهم ـ  أنها واحدة من  الحمم التى اندفعت من بركان الثورة الفرنسية حاملة نصيبها من مكوناته فكرا وقيما ووهجا وحرارة،  وأنها صدمت مصر بنفس القوة التى صدمت بها الدول الأوربية، ولم يكن ذلك مصادفة، فمصر بتاريخها الفرعونى صاحبة مساحة مميزة فى النسيج الثقافى للبشرية، ولابد أن تهاجمها الحداثة على نحو ما هاجمتهم، وفى وقت ما هاجمتهم، ولست أنا أول من يقولها ، قالتها المؤرخة الدكتورة ليلى عنان بعد دراسة شاملة لما كتب عن الحملة سواء من المعتدلين أو  المغالين، مصريين كانوا أو أجانب، وفرقت بين أبو قرش وابو قرشين، بين الواقعى والأسطورى. قالت   " الحملة فى حقيقة الأمر وببساطة شديدة حدث من أحداث التاريخ الأوربى ذاته، وهى جزء من تاريخ السياسة الخارجية للثورة الفرنسية نفسها، وأن جنود الحملة كانو واقعين تحت تأثيرعصر التنوير، أى محاربة ظلمات الجهل والتعصب الأعمى والاتجار بالدين، وضرورة الايمان بالعقل الانسانى وما وصل له من علم، وإيمانهم بضرورة تنوير الجميع" منقول من كتاب الحداثة والامبريالية " للمؤلف نفسه. المفارقة أنه كما قاومت أوربا الثورة دفاعا عن النظام الاقطاعى والملكية والرجعية المتجزرة فى ربوعها، المصريون أيضا لم يقبلوا مبادئ الثورة أو توجهاتها  أو راديكاليتها وتأثيرها المتوقع على ثوابتهم، ونمط حياتهم المتردى وإن كان حائزا منهم على درجة مقبول . لكن هنا نحتاج لوقفة، إذ يلزم التفرقة بين عدم القبول والامتعاض وبين الثورة المسلحة، هذه مرتبة وتلك مرتبة أخرى، وهنا يبرز سؤال لا يمكن ألا نسأله..هل يعقل أن يقوم المصريون  بثورتيهما المسلحتين  بسبب رفضهم للجديد أو للمستجد فى طريقة التفكير، كإعمال العقل فى ممارسة الحياة، ودفن الموتى بعيدا عن محل السكن، أو تنظيف الشوارع، أو تسجيل الملكية، أو فرض ضرائب بطريقة منظمة حتى لو كان مغالى فيها؟ هل من الممكن أن يتحول شعب أعزل ومسالم، ولم يحدث أن تحمل مسئولية الدفاع عن بلده لعدة قرون، من الشعور بالامتعاض إلى الغضب ثم إلى الثورة وحمل السلاح فى ثلاثة شهور فقط؟ أم أن هناك حلقة مفقودة .. محرك .. لهو خفى  له مصلحة مباشرة فى ذلك ؟  وهل نحن فى حاجة إلى شرلوك هولمز أو كوجاك ليكشف لنا عنه أم أنه موجود وملء السمع والبصر، وممثل فى الأتراك والمماليك المتمصرين؟ وكيف لا يكون واردا أن سقوط النظام لا يعنى سقوطهم أو تلاشيهم، خاصة وأن لدينا من الوقائع ما يجزم بوجودهم الفاعل على الساحة. على سبيل المثال.. طلب الفرنسيون من المشايخ التدخل لوقف حوادث النهب والسلب التى حدثت بعد معركة امبابة وقبل أن تستتب الأمور، ردوا  " بأن هذا من عمل الجعيدية وأسافل الناس وأن هذا أمر لاقدرة لنا على منعه" ـ المرجع الجبرتى ـ  ورشحوا من ينتمون لبيوتات المماليك بدعوى أن الناس تهابهم، يعنى موجودون وجاهزون، وواقعة أخرى.. ورد فى منشور نابليون الأول " إن أهالى مصر منذ الآن لهم الحق فى تولى المناصب العالية، وأن الفضلاء والعقلاء من بينهم سيديرون الأمور وبذلك  ينصلح حال الأمة كلها " كلام جميل وزى الفل لكن فى التطبيق ماذا حدث؟  طلبوا من مشايخ ديوان القاهرة القيام بمهام وظائفهم فيما يخص تعيين كبار الموظفين، وعلى رأسهم محافظ القاهرة وأمير الشرطة وأمين الاحتساب من بين المصريين، فماذا حدث؟ رشحوا  ثلاثة شخصيات من جنس المماليك لا جنس المصريين، رفض الفرنسيون هذا التوجه، لكن المصريين ظللوا وراءهم حتى أقنعوهم .. كما نرى يصرون على  إقصاء أنفسهم بأنفسهم ( نتكلم عن صتدوق أسود فلا داعى للغضب أو الخجل )

الأتراك والمماليك كانوا إذا حقيقة واقعة، ويشكلون طبقة سامية ( طبقة أولاد الناس ) حسب تسمية العامة لهم، ولها علاقة عضوية بنظام الحكم، ولا شك أنهم بعد هزيمة جيوشهم انكمشوا ولزموا بيوتهم إيثارا للسلامة، فهم يعرفون أكثر من غيرهم خطورة وضعهم تحت رحمة قوات عسكرية أخرى غير قواتهم، كما أن الشأن العام هو شأنهم وليس شأن المصريين ( صندوق أسود ولا داعى للغضب أو الخجل ) وكان من الممكن أن يكتفوا بمشاعر الكراهية والحقد على الفرنسيين الذين انتزعوا منهم جوهرتهم الغالية مصر، لولا نابليون ومنشوره الأول الذى أشار لهم على السكة التى يسلكوها بأمان للتنفيس عن حقدهم المكبوت والكيد لمن اغتصبوا سبوبتهم، والسكة لم تكن شيئا آخر غير المصريين..إذ فى سابقة هى الأولى من نوعها على مدى قرون، أدخلهم نابليون طرفا فى معادلة الحكم .. المصريون الفقراء المهمشون  المقهورون خاطبهم المنشور الأول بقوله يا أيها المصريون يا أصحاب واحدة من أعظم الحضارات جئت لأخلصكم من المماليك ألخ  ويضيف ما يؤكد احترامه للدين الاسلامى وللقرآن الكريم، هذا ليس منشورا، ليس قطعة من الورق، إنه زلزال .. إنه صك عالمى بموجبه تم وقف الإقصاء الذى وقع على المصريين لما يقرب من 25 قرنا، وحال بينهم وبين إدارة بلدهم، ومع ذلك لن أختلف مع من اعتبروه بروباجندة سياسية، الهدف منها خداع المصريين والضحك على ذقونهم، من خلال الاشادة بحضارتهم ودينهم، ولن أسأل ما الذى يدعوه إلى ممالئة شعب أعزل لا يمثل أى خطورة عليه؟ خاصة وأنهم يعرفون حالته الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال تقارير قناصلهم وتجارهم، وحسب معرفتى المتواضعة بالتاريخ لم يحدث أن فعلها  أى من الغزاة حتى ولا عمرو ابن العاص، رغم أنه ـ شأنه شان نابليون ـ كان حاملا لسيف ورسالة  الأول الحداثة والثانى  الدعوة الاسلامية، مع الفارق بالطبع، على أى حال كان المصريون هم النمرة الجديدة التى أخرجها نابليون من ظلام القرون، ودفع بها إلى المسرح لتلعب أدوارا ليس لديها سابق معرفة بها، ولم يدربها أحد عليها، ولم ترد فى خاطرهما باستثناء حالات نادرة ومحدودة التأثير ..فى ظنى أن العثمانيين والمماليك تلقفوها، وصنعوا كورة نار، وألقوا بها عليها، وككومة من القش الجاف توهجت  فى الحال، والتهمت عددا من الجنود الفرنسيين الذين أخذوا على حين غرة، من ناحية كانوا يأمنون جانبها. كورة النار لم تكن غير بروباجندة مضادة تعزف على نفس الوتر.. الدين..ليس للبسطاء والمهمشين والفقراء إلا هو، هو فرشهم وغطاهم،  لقمتهم وهدمتهم وطنهم، أرضهم، يدعون الله فى النوائب "يا نجى الألطاف نجنا مما نخاف" وعند خلو كرسي الحكم  "اللهم ولى الأصلح" لم يضيع الطابور الخامس لحظة واحدة، سارع بالرد ببروباجندة مضادة. كان لها الغلبة بسبب وحدة اللغة والدين والاتصال اليومى المباشر والمعرفة التامة بفسيفساء المجتمع وكيفية التأثير فيه، ومن هم الأشخاص الفاعلون فى كل تجمع، سواء حرفى أو تجارى أو عشوائي وحتى غوغائي، ويعرفون فتوات الحوارى بالواحد، ولهم علاقات سابقة بهم، وكل هذا جاهز وقادر على العمل الآن ..الرسالة المطلوب بثها سهلة، والناس جاهزون لتصديقها لأنهم بالقطع تشككوا  فى مصداقية ما جاء بالمنشور، لاختلاف الديانة من ناحية، وغرابة الخطاب من ناحية أخرى، أما عن الرسالة فلم تكن غير أن الفرنسيين الكفار لم يأتوا إلا إلا للقضاء على الدين الاسلامى.  اندلعت ثورة القاهرة الأولى ثم الثانية. هل هناك توافق بين المقدمات والنتائج أكثر من هذا؟ لكن البعض يدعون أن ثورة القاهرة كانت دفاعا عن الوطن، دفاعا عن استقلال مصر ضد المحتل الأجنبى، وينسون أو يتناسون أن مصر وقت الحملة  كانت محتلة بالفعل، وترزح  تحت نير أقسي وأحط أنواع الاحتلال، وتحكم بتشكيل عصابى  من العثمانيين والمماليك وكليهما  لا يعرف له أصل أو فصل فى مضمار الحضارة، فكأنهما نبت شيطانى ابتليت به الحسيبة النسيبة مصر، وتظهر وضاعة الأصل هذه فى سرعة تحالفهما  حال توقف القتال بينهما، عام 1517 وكأنه ليس بينهما دم،  وأن رأس طومان باى المعلقة على باب زويلة كانت محض خيال، اكتشفا بسرعة البرق أن مصلحة كل منهما عند الآخر، لا عند المصريين، أخلاق لصوص وقتلة، لا قيم ولا دين ولاكبير يمكن الرجوع له  .. أصبحا سمنا على عسل وحليب يا قشطة من أجل سواد عيون المحروسة ولحمها الشهى، وتبادلا الأدوار، نزل المملوكى درجة، قبل أن يكون الرجل الثانى، والعثمانى الأول، الباشا العثمانى رئيسا والبيك المملوكى نائبا له، وطبقت هذه الآلية الادارية على كل مستويات السلطة، واستمرت الجباية والابتزاز والقهر والعسف، ليس ليوم أو يومين أو عام أوعامين وانما لثلاثمائة عام، عصر كئيب وصلتنا صورته البشعة بواسطة مؤرخين عظام من عينة ابن أياس  والجبرتى وابن تغري بردى وابن دقماق، لكن الكتاب سالف الذكر يرى أنهم كتاب حوليات (هواة) متفرجون وسميعة، لا مخطوطات لا وثائق لا مناهج بحث، على نحو ما جاء قى الكتاب سالف الذكر إذ طلع علينا مؤلفه المؤرخ الكبير بتعبير عن فرحة لا تقدر بباحثين جدد من جيل سيعينيات القرن الماضى، راجعوا فترة الحكم العثمانى على ضوء ما أمكن الوصول له من مخطوطات ووثائق مالية ومحاضر المحاكم الشرعية، وكانت النتيجة وفقا للنص الوارد فى نفس الكتاب، لا تقدم ولا تؤخر ونقرأ  " وجاءت الدراسات الجديدة بمعلومات وفيرة وأحكام مغايرة أكثر تفصيلا ودقة وموضوعية لتعيد اكتشاف وجه مصر فى هذه القرون الثلاثة الذى ليس بالضرورة أن يكون جميلا ورائعا ولكنه ليس قبيحا فى كل الأحوال كما أثبتت هذه الدراسات كذلك أنه ليس بالضرورة أن تعزى نهضة مصر وتحديثها إلى غزو الغرب لها  ( بالمناسبة الغرب لم يغز مصر فرنسا هى التى غزتها وفرنسا وإن كانت من الغرب إلا أنها فى هذا الوقت لا تمثله فقد  كانت فى حالة عداء وحرب مع كل ممالكه وهذا للأسف خلط للأوراق غير مقبول من مؤرخ كبير ) زمن الحملة الفرنسية أو زمن التواصل مع الغرب سلميا زمن محمد على، وأن عام 1798 ليس قدرا أو من المحتم أن يتخذ بداية لتاريخ مصر الحديثة أو التأريخ لها وأن هناك سنوات سابقة على ذلك يمكن أن تتخذ كبداية أيضا " الكتاب المذكور يقع ضمن سلسلة قراءة جديدة للتاريخ.

قراءة جديدة للتاريخ عنوان كبير ، له بريق، أعتبره big fish وأراه قسم قائم بذاته فى الصندوق الأسود..اللعبة المفضلة عند الأيديلوجيات الطارئة، ما أن تعلو الشيفونية القومية إلا وترى الجميع  يستصرخون التاريخ ليقل ما يريدون، وما أن يحل  النهج الاشتراكى أو الشيوعى محل الرأسمالى أوالعكس أو تجد فاشستية دينية أو سياسية محل الليبرالية ،أو العلمانية أو العكس إلا ويبدأ  التقليب أو ( النخورة) فى التاريخ بحثا على ما يسد الرمق، وعندما يعجزون يصنعون أطباقا يسيل لها اللعاب، ولا أحسن شيف، فعلها أدولف هتلر عندما أراد أن يركب صهوة حصان الجنس الآرى ويطير به، وحاولها البعض عندنا ليثبت انتساب الملك فؤاد لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أما ما فعله المؤرخ والمعلم محمد رفعت فشيئ مذهل، فقد التقط هذا الرجل شعار أحمد لطفى السيد وجوقته فى حزب الأمة " مصر للمصريين " الذى رفعه فى مواجهة هؤلاء  الموالين للخلافة العثمانية والميتين صبابة فى مشروعيتها، وأيضا فى مواجهة المستعمر البريطانى، وقام بضخ الروح فى هذا الشعار تربويا .. إذ قام بتطعيم المقررات المدرسية  بموضوعات تشيد بأمجاد مصر وعظمة المصريين،  وأقام منهجه على ركيزتين الأولى أمجاد الفراعنة، والثانية  عصر محمد على وفتوحاته، ولأن التربة المصرية تربة خصبة، والانسان المصرى خامة تنافس الذهب والألماظ، أتت التجربة بنتائج فوق ما يتصورها أى إنسان بما فيه صانعها، ..بعد عشر سنوات أنتجت شبابا يقول يا أرض انهدى ما عليك قدى، مولوا الأحزاب السياسية سواء كانت يمينية أو يسارية بدماء متوقدة، ولد منهم اسمه أحمد حسين وهو فى الجامعة اخترع مشروعا هو مشروع القرش، الولد يريد بقرش صاغ تبرع من كل مواطن أن يظهر للوجود بادج " صنع فى مصر " فى تحد سافر ل " صنع فى انجلترا ".  هؤلاء الأولاد خرج من بينهم  من ألقى بنفسه فى النيران من أجل بلده، اغتال أحدهم سردار الجيش المصرى السير لى استاك، واغتال آخر أمين عثمان وزير المالية عقابا له على كلمة قالها اعتبرها الوطنيون إهانة لمصر، من يصدق؟ وفى الأحزاب الشيوعية فتيان وفتيات تحدوا السجن، تحدوا الموت نفسه من أجل بناء وطنهم على نحو ما يرون أنه الصواب، وفى الجيش صنعت ملاحم محمد رفعت الضباط الأحرار، الذين نفذوا انقلاب 23 يوليو وعزلوا أكبر سلطة فى البلاد  وأعلنوا الجمهورية .  وبصرف النظر عن ايجابية أو سلبية آلية ما يسمى " قراءة جديدة للتاريخ " فإنى  أرى أن على المهتم بالتاريخ والمقدر لقيمته كمنتج بشرى أعتبره العمود الفقرى لما سميته فى مقال سابق "بالذات البشرية " عليه أن يتطهر بل ويتوضأ قبل لمس أى صفحة من صفحاته، إذا كان سيفتحها بصفته باحثا أو مؤرخا، وأنا لا أدرى هل يحق لكاتب مهمش مثلى أن يطالب بوقف وضع التاريخ تحت طلب الأيدبوليجبات متخفيا  تحت مسمى إعادة قراءة التاريخ، واستبدالها بآلية إجادة قراءة التاريخ، أو تجويد قراءة التاريخ، فإجادة قراءة التاريخ عملية مستمرة لا تخضع للغرض أو الهوى، ولو كان للتاريخ عندنا مثل هذه الحرمة ما  أقاموا  الجنازات الحارة أسفا وحسرة على روح مصر المستقلة التى أزهقها نابليون بحملته الملعونة، فى حين أن الرجل لم يزهق شيئا، لسبب بسيط جدا أنها لم يكن لها وجود فى هذا الوقت، وهم يعرفون.  والحقيقة أنه لم يبعثها إلا نابليون بونابرت، ولم يبعثها بصفته قائد عسكرى، جاء ليحتل هذا البلد، لأنه من المستحيل أن يمتلك مثل هذا القدر من التجرد إلا نبى أو ملاك،  وهو لا نبى ولا ملا، هو قائد عسكرى له طموحاته، ويستحيل أن يكون عيسي ابن مريم عليه السلام وهولاكو ابن جانكيز خان فى الوقت نفسه، إن من أعاد ضخ الروح القومية فى نفوس المصريين الذين حرموا منها ـ لظروف قهرية لا تخفى على أحد ـ ليس نابليون وإنما  ديكارت وجان جاك روسو وفولتير  وغيرهم من فلاسفة ومفكري التنوير، ذلك  بحضورهم المدوى من خلال الحملة الفرنسية (بكرية)  الثورة الفرنسية، التى فى لحظة عبقرية من التاريخ ألقت برحالها كما سبق القول على شاطئ الإسكندرية، هل ثمنا هذه اللحظة؟ هل أدركنا أنها لحظة ميلاد مصر العالمية أو عالمية مصر؟ لو فعلنا لكنا أمام مصر أخرى الآن.... الصندوق الأسود...ليس القط الأسود بالمناسبة

تعليقات