حاضر الثقافة في مصر 3

 حاضر الثقافة فى مصر 3

ماذا كان موضوعنا؟ تهت، كان عن الزمان؟ عن المكان؟ عن الزمكان؟ مسموح لكاتب القصة، للشاعر، للموسيقى، أن يسرح أن يتوه، إلا كاتب المقال، عليه باليقظة 24 سا عة، ربما يسمع خبرا يعلق عليه، يرد على ذهنه خاطر يطوره ليصبح موضوعًا ينفع به الناس، حلم جميل يتراءى له يرفع به معنويات الناس، مثل من قديم الزمان يعيده للحياة يعظ به الناس.  نعيش فى عالم كل ما فيه يتحرك،  يتغير، والكاتب وظيفته الامساك بالجزء الذى تحرك، يسارع بالسؤال، لماذا تحرك؟ فى أى اتجاه تحرك؟ ما هى القوة التى حركته؟ ما هدفها من تحريكه؟ ما أثر ذلك على بلده؟ وغيره وغيره، عندما لا يوجد من يطرح السؤال، ومشتقاته، أو يوجد، ويكون هناك من يمنعه، أو ما يمنعه، فهذه هى الكارثة، لأن هذا يحرم المجتمع من تراكم معرفى يخص هذا الحدث بذاته، ويلازمه كظله، وفى حينه، لا بعد مروره. بهذه الآلية وحدها يمكن تعديل المسار المختل فى وقته، واتخاذ اجراءات السلامة فى وقتها، لا الانتظار حتى يبرد الحدث، ويدخل دائرة التاريخ، ويتراكم فى بلادة مع غيره على أرفف المكتبات، إلى أن يأتى دور دارسي التاريخ لا ليعدلوا الحمل المائل، وإنما للحصول على الماجيستير أو الدكتوراه، واستخلاص عبر أكاديمية جليدية الملمس، تحتاج للتسخين لتدب فيها الحياة، وغالبًا لا يحدث ذلك إلا إذا لزمت السياسيين الجدد، وغالبًا ما يسلمونها لماكيير مناسب ليجرى التعديلات التى توافق هواهم. موضوع كبير وربنا   

الأكثر كارثية بالطبع أن يتم توصيف الحدث على غير حقيقته،  تصغيره، تكبيره، التعتيم على بعض أو كل جوانبه، العبث بنتائجه تهوينًا أو تهويلا، ولا يُقبل عذر لمن فعلها  مهما كان، أصل الحقائق خط أحمر فى كل دول العالم ذات الشأن..يعرفون أن  المخرجات الصحيحة رهن بالمدخلات الصحيحة. المدخلات المغلوطة تنتج وعيًا جمعيًا مغلوطًا، يصعب وربما يستحيل تصحيحه، لأنها تُفرخ وتُسفر عن مغالطات أفدح، وليست بالضرورة من جنسها، وتنتقل من الجيل  المعاصر لها إلى ما يليه، وإن تسامح الجيل  المعاصر مع ما علق بالحدث من مغالطات، واعتبرها هنات، ورأى التغاضى عنها لأسباب عملية، واتفق بينه وبين نفسه أن يراعيها عند  اللزوم، إلا أنه للأسف لن يعيش للأبد، ومن ثم ينتقل الحدث للأجيال التالية عاريًا من أى تحفظات ،أو تعهدات، حتى إن وجدت هوامش تشير لها فإن المعاصرين غالبًا لا يقبلون اضاعة وقتهم فى التحقيق فى وقائع راحت وراحت أيامها.

نختار مثالين فقط من جملة ما ابتليت به حياتنا الثقافية والسياسية.

 الأول توصيف المعاصرين لما حدث فى 23 يوليو 52 على إنه ثورة، مع أنه انقلاب على الشرعية القائمة، وتحار، لماذا فعلوا ذلك رغم أن عزل الملك وإعلان الجمهورية كان مطلبًا شعبيًا وأملا يعيش فى دخيلة النفوس لعشرين قرنًا مضت، بل والأكثر أن الشعب بذات نفسه هو الذى أعد هؤلاء الضباط وشحنهم بآماله القومية أثناء مراحلهم التعليمية، وجهزهم للقيام بهذه المهمة الغالية، ولم تكن المحاولة الأولى لفرض الحكم الجمهورى، لا ، سبقها محاولتان، الأولى فى  آخر القرن الثامن عشر، وحدثت فى الصعيد على يد همام الكبير الذى أعلن نفسه رئيسًا للجمهورية الهمامية، واستمرت نحو ثلاث سنوات، والثانية قام بها المحامى يوسف الجندى فى القرن العشرين أثناء ثورة تسعتاشر وهى جمهورية زفتى فى الوجه البحرى، وسبب فشل المحاولتين هو عدم امتلاك الشعب لقوات مسلحة يكون أبناؤها من صلبه، أما وقد امتلك هذه القوات ومن صلبه وقامت  بالمهمة، فكان هذا محل رضا الطرفين الشعب والجيش وهو ماعبرت عنه العلاقة الودية بين الطرفين بعد شحن فاروق لايطاليا، فقد وضعت  القوى السياسية والثقافية نفسها وخبرتها فى خدمة الضباط الأحرار لمساعدتهم فى إدارة البلاد فى الفترة الانتقالية، وكان على رأس المعاونين على ماهر عن الجانب السياسي واحسان عبد القدوس عن الجنب السيوثقافى ان صح التعبير ( بالمناسبة ظل صلاح الشاهد يوران الملك فاروق هو يوران الرئيس جمال عبد الناصر ومن بعده الرئيس السادات  ) وفى الجانب المقابل طلب الضباط الأحرار من الأحزاب تطهير نفسها والتخلص من القيادات سيئة السمعة توطئة لتسليمهم السلطة وعودة الأمور لسابق عهدها، وعودتهم لثكناتهم، لكن يبدو أن نجاح الحركة، وخروج الملك بهذه السهولة، واستتباب الأمن على هذا النحو، أشاع فرحة عارمة، دفعت المعاصرين للتسامح مع من تزيَّد وسماها ثورة، ( هنات ) .. الحركة المباركة كما كانت تسمى أصبحت ثورة 23  يوليو، القائمون بالحركة المباركة تحولوا لثوار، ولهم مجلس هو مجلس قيادة الثورة، واتخذوا من الأهداف الستة التى كانت تنادى بها الأحزاب الراديكالية أهدافًا للثورة، وظهر خيار جديد وهو البقاء فى السلطة حتى تحقيق أهداف الثورة، وهو ما وافق عليه مجلس قيادة الثورة بالأغلبية، وحل ما أسماها المزايدون الشرعية الثورية محل الشرعية الدستورية، ولم يضعوا فى حسابهم الاختلاف الجوهرى بين الشرعية الثورية والشرعية العسكرية، لكن ما علينا المهم فى نظرنا هو توضيح أن الانزلاقات المتتالية نتجت عن فعل أصلى وهو التوصيف غير الصحيح للحدث.

المثال الثانى  هو الزعيم أحمد عرابى الذى وصل لنا فى صورة زعيم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، بينما هو كأى انسان له ما له وعليه ما عليه، وهو ما كان على المعاصرين نقله لنا، والنتيجة وعى مشوه، تنشب الأسطورة مخالبها فى جوانبه، وقبول سياسات وقرارات ما كان يمكن أن تقبل لولا هذه الأرضية، كما  تظهر نتيجته فى ردود فعل غير طبيعية فى التعامل مع الأحداث الجارية. وتسأل لماذا تصرف أهل مصر بهذه الطريقة وأهل فرنسا أو غيرها  بتلك والقضية واحدة ؟  والاجابة، المدخلات هنا تختلف عن المدخلات هناك، المدخلات هناك دقيقة وأمينة وهنا مبهوأة، مرحرحة ( على الدواق ) هناك الشأن العام له وزن معين وهنا وزن آخر، ويتدخل أولاد الحلال فيقولون ليس لهذا السبب وإنما لأنهم  غربيون ونحن شرقيون، ماديون ونحن روحانيون، من الآخر "قفل على كل المواضيع مافيناش كانى ومفيناش مانى والدنيا ربيع " ورحمة الله علي الثلاثى صلاح كمال سعاد " لم يكن لهم عمل إلا تجميل حياتنا ومدنا بما يلزم من الأمل لكن......      

 

عرفوه، رصدوه، أعطوه كل ما يحلم به كاتب من العالم الثالث .. بادج العالمية،  ليس احتفاءا بمنتجه، فهم لا تنطلى عليهم الضلالات ويطلعوها  من بين ألوف، إذا ما هدفهم من تلميعه وفتح أروقتهم له؟ .. تنصيبه كحكيم للزمان عند قومه، حتى تتوفر لضلالاته مصداقية أكبر باعتبار أنه الكاتب الذى انبهر  الخواجات بقدراته ومواهبه؟

عين ما فعلوه مع بوريس باسترناك..تلقفوه، كانوا فى أمس الحاجة لمن يقول  لفقراء العالم أن الشيوعية ليست الجنة الموعودة كما يدعى الشيوعيون، لكن من يصدقهم؟ لابد من شهادة شاهد من أهلها، وجدوا ضالتهم فى رواية "دكتور زيفاجو" أعطوه جائزة نوبل، جريت كالرهوان، تخبط على بيوت الخلق، فى عموم الكرة الأرضية، وتقتحم مخادعهم، واستوديوهات هوليود انضمت للزفة، صورت، عرضت، شنعت، وأخمدت النيران، وجاء جورباتشوف ويلسين وانحسر الطوفان الشيوعى، ألم أقل فى مقالى السابق أننا نعيش فى عالم له أصحاب؟ لكن عزرنا ألا تمثيل  لنا فى مجلس ادارته    

تعاملت شركات النشر العالمية مع مؤلفات صاحبنا باعتباره كاتب استراتيجى عربى مرموق مرموق مرموق يا ولدى، كان يمكن أن أصدقهم لو أنه فى مقال من مقالاته أو كتاب من كتبه سأل سؤالا واحدا بما يرضى الله وبالحجم الطبيعى لماذا دخل عبد الناصر حرب يونيو رغم علمه وعلم العالم كله أن الجيش المصرى ليس فى حالة تسمح له بدخول حرب؟  وسؤال أخير لماذا عندما توفرت له فرص عديدة للتراجع لم يتراجع؟ وسؤال ثالث ـ من نفسي ـ هل يمكن أن يتحقق القائد الأعلى للقوات المسلحة من القائد العام للقوات المسلحة عن قدرة الجيش على خوض الحرب فى جلسة مشكلة من غير ذوى الاختصاص وعندما يجيب بقوله " برقبتى يا ريس " يدخل حرب ويتخذ قرار بهذه الخطورة ؟ .

طريقة مبتكرة لترسيخ الضلالات، وتحويلها من كلمات يسهل محوها أو طمسها إلى بقع يصعب ازالتهاـ أو حفر يستحيل ردمها،  زعيم أوحد يظل زعيمًا أوحدًا، زعيم ملهم يظل زعيمٍا ملهمًا، بطل القومية الهلامية يعيش ويموت بطل القومية الهلامية، وإياك من الاقتراب من المحمل الشريف، وما يحيط به من دراويش، وبلهاء ومنتفعين وأعلام ومباخر وسيوف وأهازيج.  تصيح.. معى مستندات ..معى المنطق ..لى رؤيتى، انظر، افحص، حلل، بالله عليك اقتلنى بنفس الطريقة المتعارف عليها منذ جدنا الرائد والمعلم قابيل، إسفكسيا الخنق الرمح السكين المسدس، لكن بالله عليك، ورحمة الميتين منك، لا تقتلنى بالصمت، بصم أذنيك، باغماض عينيك، بضحكة ساخرة على شفتيك، بهزة حقيرة من كتفيك، اطلع على مستنداتى، وجهة نظرى، قيمى، أخلاقى، انتمائي لتراب هذا البلد، ولصنف الانسان، ويلهمك المولى  وتقول  " اسمع يا هذا ، لا  ثكلتك أمك، ليس سيدنا ابراهيم  وحده هو الذى كان يعرف أن الصنم صنم والحجر حجر، وأنه كذلك سواء كان  جزءا من الجبل أو تمثالا فى محراب، سواء محاطًا بالقفر والجدب والوحشة، أو بالدفئ البشرى وعطر البخور وترانيم وتراتيل المؤمنين والمؤمنات. كلهم يعرفون أصله وفصله، قطعوه بأيديهم من الجبل، ووضعوه بأيديهم فى المحراب، ثم خروا له سجدًا، يتضرعون، يسألونه الستر، يسألونه الشفاء، بسألونه النصر، يسألونه المغفرة، وقال سدنته وكهنته إن صمته المطبق سر حكمته، وجسده الحجرى دليل صلابته، ومنهم من ألف التعاويز وألف أدعية ليست ككل الأدعية، وأشعارا وتواشيحا، ومنهم من تنساب دموعه فى حضرته. سيدنا ابراهيم فقط هو الذى امتلك شجاعة السير وراء عقله ( نعمة الله ) تحدى التابوهات، هو فقط  سيدنا ابراهيم من نطق بغير الشهادة للصنم، لا يحسب لابراهيم، سيدنا، المفكر، النبى، المعرفة، وانما يحسب له الشجاعة، الحسم فى التملص من روح الجماعة، من ثقافتها من دروشتها من رجسها من شيطنتها" ..قالوا  مجنون مجنون مجنون..قلت ماشى بس أعيش واكتب     

مقدمة عرضت نفسها  رغمًا عنى وأنا أتأهب لكتابة مقالى ..واحدة من الكبسولات التى أبتلعها على الريق كل صباح .. عدة الشغل ..منشطات مقويات مكملات غذائية أواجه بها التابوهات التى تحاصر فراشى، تحجب أشعة الشمس المغسولة بعبق الصباح عنى، تحرمنى من تبادل القبلات، تابوهات ظالمة، قاسية، تحاصرنا، تسد الآفاق أمامنا، تستهلك قوانا ككتاب ومفكرين رغم أن هدمها ليس فى حاجة لا لكتاب ولا مفكرين ولا دياولو، فقط  بديهة لها احترامها فى نفوس أصحابها، ولها اعتبارها فى ثقافتهم وأعرافهم وتقاليدهم، لكن هذا هو قدر الشرق والشرقيين، حرب ضروس مع طواحين هواء، تستهلك قوانا وتسفك دماءنا، تبدد وقتنا وأموالنا، وتسهم فى استمرار تخلفنا، وفى النهاية لا نجد فى أيدينا إلا قبض الريح وأفواج تلو أفواج من شباب كما الورد، يهاجر أمام أعيننا تترصده سهام سياسى الغرب ومنتفعى الشرق،وتبتلعه أمواج البحر، ونجد آباءنا وأمهاتنا وأطفالنا يقفون أمام أعيننا فى طوابير المذلة وأذرعهم ممدودة وفى نهايتها أطباق المهانة فى انتظار كبشة من الطعام.. فضلة خير جوريتش سكرتير عام الأمم المتحدة الخالى شغل تقريبًا ، ملعون أبو السياسة والسياسيين الذين يسلمون بلادهم تسليم مفتاح لهذا الهوان.

عالم اليوم بانجازاته العلمية غير المسبوقة،َ وبتشوهاته الانسانية والأخلاقية الآثمة، هو من منتجات علوم الشريحة، التى تحدثت عنها فى مقالى السابق فى عجالة .. ولم يسعفنى الظرف لأبين أنها  زنازين حبس انفرادى للعقول الملهَمة، أبوابها تقف حائلا بينها وبين سماع أنين البشرية..سماع الآه..وحدة الألم العالمية التى تسمعها من كل جرحى العالم، مرضى العالم،، جوعى العالم، ويصلك معناها بلا مترجم. علوم الشريحة خنقتها، أهالت عليها التراب. كرست الأنانية المعرفية فصبغت الانسانية بنوع غريب من القسوة العامة أطلقت سعارا بشريا صنع مخالبًا وأنيابًا لاقتصاديات الدول المتقدمة، فأخذت تنهش فى لحم الدول المتخلفة، وظهرت الشعبوية فى أمم كان التعريف والتحديد منهجها الذى لا تحيد عنه، فأمكن تمرير توجهات مشبوهىة كان يستحيل مرورها فى  ظل أبحاث الكل لا الجزء، وسهلت صعود الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم فى الديمقراطيات المتقدمة، ووفرت ما يلزم من الحيثيات للحروب العرقية والدينية والمذهبية والقومية والداعشية وحروب بلا  دماء ( الجيل الرابع ) طالما أنها ( تشر فلوس ).  

أعرف أن كثيرين لن يحفلوا بما أقول، ولن يعيروا مصطلح "علوم الشريحة" ما يستحق من اهتمام، بسبب ، كونه منتج محلى لم يسكه جون أو توم، ولم يرد ذكره فى التايمز، أو الوشنطن بوست، لكن، لا ،علوم الشريحة مصطلح مصرى سكه فتحى عبد الغنى المواطن المصرى غير ذائع الصيت، ونشرته صحيفة مثقفين لا صحيفة بطاطس مع احترامى الكبير للبطاطس والباذنجان، ويقول فتحى عبد الغنى، أن تأثيره العالمى أكبر وأخطر بكثير مما يبدو فى مظهره المتواضع، وقصوره عن لفت نظر فيلسوف مصرى كبير بحجم الدكتور مراد وهبه، لا يترك مصطلح سكه خواجة من الخوجات إلا وتناوله بالبحث والتشريح والاشادة، ومع ذلك هذا لا يفت فى عضدنا أو يشغلنا عن مواصلة الرصد، فأهمية هذا المصطلح ليست مستمدة من قيمة منتجات علماء الشريحة، ولكن مستمدة من قيمة علماء الشريحة أنفسهم بصفتهم  علماء القمة، الذى أعتقد أن الله سبحانه وتعالى كلما خلق واحدا منهم خلق مقابله ربع مليون، يعلقهم فى رقبته، وعليه هو وطائفته مسئولية  انتشالهم من وهدة التخبط فضلا عن الفقر والجهل والمرض والتفرقة العنصرية والحروب العرقية والدينية، وهنا تظهر لنا خطورة انشغال علماء القمة كل فى شريحته، ولا يكون هناك رؤية عامة لمصير الانسان، هذه مشكلة كبيرة جدًا، يثيرها كاتب مصرى صغير جدًا، ومعاصرة جدًا، وتهم العالم جدًا، ولها انعكاساتها الشريرة جدًا، والدليل تحت أعيننا جدًا، فهل يعقل أن يكون الناس على اختلاف مشاربهم علماء وأميين، صينيين وانجليز وأفارقة، مسلمين ومسيحيين وبهود وهندوس وملحدين، حرامية وشرفاء، حكام وصعاليك، كله كله رايح جاى فى ايده موبايله، ويضاف تليفزيون  فى كل بيت، ودشات على السطوح فاتحه كرشها وعماله تلتقط كل  ما ينتجه العالم من كلام فارغ وكلام مليان، وتعرض وثائقيات تعيد وتزيد فيما  كان وما صار، ومقاطع فيديو تنهمر كالمطر من ناس لا تعرفهم ولا عمرك شفتهم، ووسائط التواصل الاجتماعى وعمايلها السودا والبيضا والبمبى، وحسن الذى يخاطب ماو، ونعيمة التى تعرفت على مريام حديثا وهات يا دردشة فى الفاضى والمليان،  ورغم ذلك الناس تتباعد لا تتقارب، والثقافات تتنافر لا تتآلف، والديانات تتناحر لا تتلاقى، والأعراق كل ينزف حسب النصيب، وتسقط العوامل المشتركة، وترتفع الجدران، ويصاب منحنى تعرف الانسان على نفسه بنكسة، فيحجم عن الصعود، ويغيب التقييم الصحيح لوضع الانسان فى الكون، وفى غمرة انغماسه فى قاذوراته ينسي أن حياته مؤقته، وأنه فى حقيقته ليس أكثر من وجبة لكائنات أخرى تجلس على نار فى انتظار تشريفه، والأدهى والأمر أن يتاح لنا جميعًا رؤية يهوذا يجلس على القمة مختالا بنفسه، السيجار بين شفتيه والكأس وطبق الكفيار أمامه.

وتسوقنا المقادير لمواجهة هذه الفزورة، ما هذا الشيء الذى لو نقص رغيف الخبز فى الصباح انقلبت الدنيا وإن نقص هو لا يحدث أى شيئ، ومع ذلك هو الذى جز رقبتى الثنائي رفيع الشأن لويس ومارى، وأعدم نيقولا وأسرته بالرصاص، ووضع بدلا منهم لينين وستالين وهما بلا حسب ولا نسب، وأطلق أكثر من مليار صينى إلى الطرقات لتحصر تشاى كاى تشيك فى رقعة صغيرة من أراضى الصين الشاسعة. نعم ما هو ؟ ذلك  الذى حول صعلوكا مثل جان جاك روسو إلى أستاذ القانون الدستورى للعالم، وحول معدم مثل عباس محمود العقاد إلى بطل قومى؟  نعم ما هو؟ ذلك الذى  رشه أحمد لطفى السيد وأنتيمه عبد العزيز فهمى ورفاقهما على جحافل ثورة تسعتاشر وكأنه بودرة العفريت فحولهم من هدامين إلى بنائيين، جعلوا من مصر بللورة تضوى فى سماء الشرق الأوسط؟ ومع ذلك ورغم الخير العميم الذى يحمله هذا الشيئ للشعوب المغلوبة على أمرها النائمة فى العسل نوم  فهو  بذات نفسه الذى أفنى الهنود الحمر، وهو وليس سواه ـ فوضت فيه الأمر لله ـ  بذات نفسه الذى انعدم ضميره وانحطت أخلاقه فحرض الشباب فى منطقتنا على نفسه ففجرها، ومعها  جموع من أهله وعشيرته، ووقف كالشيطان الرجيم فى وجه تقدم بلاده ورفعة شأنها بين الأمم؟ ...من يصدق أنه الثقافة التى بها أو بلاها تعيش الشعوب وكأنه لا ينقصها شيئ.

ليس أمامنا إذا ألا أن نعود صاغرين إلى المربع رقم واحد.. ما الثقافة؟ كل المعلومات التى فى الدنيا معلومات ثقافية لكنها لا تحصل على هذا الشرف إلا عندما يقع عليها اختيارك، وتسلمها العمل فى الحياة اليومية. مثلا كلنا قرأنا قصائد أحمد شوقى ولكن قد لا نحفظ غير "ومن ينبيك عن خلق الليالى كمن فقد الأحبة والصحابا" هل فقط لأنه بيت جدع فش غلنا وندد بالأيام والليالى وعمايلها السوداء، أم لأننا قد نستعين به فى مواساة صديق فقد عزيز لديه؟  ورغم إعجابنا بكل قصائد أبى القاسم الشابى إلا أننا قد لا نحفظ إلا "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر " لأنه كان سندنا فى موضوعات الانشاء أيام الاستعمار الله لا يرجعها، وربما لا نحفظ من  كل أقوال وأفعال أحمد لطفى السيد غير "الخلاف لا يفسد للود قضية" لاستخدامها كجردل ماء نصبه على رأس من يخالفنا فى الرأى حتى لا نتشابك بالأيدى، هذه أمثلة مبسطة لشرح الفكرة، لكن ما  يجب ملاحظته، هو أن المعلومة المختارة تحفر لنفسها مكانا فى الذاكرة يبدو غائرا أكثر من غيره، وتبدو دائما وكأنها غرزه فى ثوب ينسجه المثقف ليغطى به وجوده الانسانى،أو نزعته الانسانية، وفى الثوب تفقد بعض خصوصيتها لحساب النسيج ككل، ونجد أنفسنا أمام ما يمكن أن يسمى يونيفورم ثقافى، لا يخص انسانا بعينه، أو شعبا بعينه، وإنما بدرجة أو أخرى يخص صنف الانسان ككل، وهو ما يمنح صفة العالمية للمثقف، إذا أضفنا إلى ذلك أن المثقف ناقد بالفطرة  نجد أنفسنا وكأننا أمام جنس أو عرق قائم بذاته، يؤكد ذلك التلاشي السريع للاحساس بالغربة بين المثقفين  إن تلاقوا على غير معرفة مسبقة، وينجذبون لبعضهم البعض وإن اختلفت الجنسيات والديانات واللغات، ويقرأون لبعضهم البعض، ويفهمون بعضهم البعض، ويأتنسون ببعضهم البعض، ويحبون بعضهم البعض، وينقدون بعضهم البعض، ويستقوون ببعضهم البعض، ويلعنون بعضهم البعض، ويبغضون بعضهم البعض، ولكن لا تمتد أيديهم أبدًا بإيذاء بعضهم البعض، وتجدهم يفهمون بمنتهى السهولة دوافع جوردون الأمريكى بطل رواية " لمن تدق الأجراس" لإرنست هيمنجواى الذى يشارك فى الحرب الأهلية الاسبانية ويعرض نفسه للموت وهو لا ناقة له فيها ولا جمل، وتسمع فى مصر من ينوح مغنيًا " الدم فى طبق الرئيس الأمريكانى /الدم فى المزيكا وفى كتب الأغانى / بابلو برمودا صوتك على موج البحور ...ألخ وتسأل مزعورا كما فعل فريد شوقى فى مسرحية الدلوعة مين ده يا بت وترد دا الشاعر سمير عبد الباقى يا سيدى والمغنى عدلى فخرى يا سيدى والمستمع مصرى والحدث تشيلى.. وتسأل والسؤال ما حرمش من جمع الشامى على المغربى؟ ....العرق...الثقافى.

ذلك العرق يجعل المنتمين له يتعاطفون مع مشكلة المناخ، ويلعنون فى صوت واحد التفرقة العنصرية، والارهاب، ويهتمون بمشكلة المهاجرين، والعولمة، والمجاعات، والفقر، والأمراض. يجعل الواحد منهم يتألم عندما يسمع عن المحرقة ويقول ليه كده يا هتلر حرام،  ويبكى بدل الدموع دم عندما يرى صمت العالم المخزى وهو يرى أب فلسطينى يقف أمام داره وحوله أطفاله وأمه وزوجته والجنود الاسرائيليون يفجرونها، ليبنوا مكانها عمارة يسكنها ما يسمونهم مستوطنين، وكأن هذا العالم الظالم لا يعرف الفرق بين المستوطن والمغتصب ونقولها بارضو عشان نبقى عدانا العيب .. المستوطن يا شيلوك هذا الزمان وياعم سام يا مبدع صفقة القرن، هو الشخص الذى يبنى على أرض لا صاحب لها ( بيعمرها ) أما من يبنى على أرض لها صاحب وبانى عليها وعايش فيها فى أمان الله ويقوم بطرده منها بقوة السلاح فاسمه مغتصب اسمه بلطجى.

المثقف أو البيك المثقف..يفرح  جدًا عندما يسمع عن اكتشاف علاج لمرض السرطان، مع إنه غير مريض به، ويبكى على الفقراء بنفس حرقة كزانزاكس وفيكتور هوجو، وعلى المساكين والمهمشين بطريقة تشيكوف، ويثور ويصيح ويتشنج كفتحى عبد الغنى قى رواية ديفيد مغاورى دفاعا عن المهاجرين الذين يسمونهم زورا وبهتانا غير شرعيين وكأنها ليست أرض الله، وهل كان استعمارهم لدول آسيا وأفريقيا شرعي  أم غير شرعي؟ . ويندد المثقف بالاستعمار وهو يعيش فى مجتمع استعمارى من ساسه لراسه كبرنارد شو، ويرقص ( المثقف برضو ) على الواحدة ونص عندما يصعد الانسان للقمر، ويدخل على زوجته وهو يصيح فرحا وصلوا للمريخ يا ناعسه ويندهش على الآخر وهى ترد عليه صارخة ومولولة احنا فى إيه والا فى إيه يامخيمر العيال عاوزه هدوم العيد.  عندها حق برضو يا مخيمر ... ونعود

تعليقات